ما بين عامي 1814 و1815، اجتمعت القوى الأوروبية بالعاصمة النمساوية فيينا لإحلال السلام والاتفاق على خريطة أوروبا ما بعد الحروب النابليونية التي أنهكت القارة العجوز لأكثر من 12 عاما وأسفرت عن مقتل وإصابة ملايين الأشخاص. وقد افتتح مؤتمر فيينا بشكل رسمي خلال شهر أيلول/سبتمبر 1814، أي بعد 5 أشهر فقط عن التنازل الأول لنابليون بونابرت عن العرش، واستمرت لحدود شهر حزيران/يونيو من العام التالي لتنتهي قبل فترة وجيزة من معركة واترلو (Waterloo) والهزيمة الأخيرة لنابليون بونابرت وتسفر في النهاية عن وثيقة تكونت من 300 صفحة، كتبت باللغة الفرنسية التي مثلت حينها اللغة العالمية، حددت مستقبل أوروبا طيلة الفترة التالية.
أزمة بأوروبا
قبل أشهر من انطلاق أعمال مؤتمر فيينا، وقعت القوى الأوروبية الأربعة التي لعبت الدور الأبرز في إسقاط نابليون بونابرت، والمتمثلة في كل من النمسا وبروسيا وروسيا وبريطانيا، يوم 9 آذار/مارس 1814 مفاهمة شومونت (Chaumont) السرية التي وضعت أسس لقائهم بالعاصمة النمساوية بعد أشهر.
إلى ذلك، وقعت القوى الأوروبية الأربعة إضافة لكل من إسبانيا والبرتغال والسويد ما بين شهري أيار/مايو وتموز/يوليو من نفس السنة اتفاقيات سلام مع فرنسا أنهت بموجبها أزمة الحروب النابليونية لتبدأ على إثر ذلك أزمة إعادة رسم الحدود الجغرافية لأوروبا تزامنا مع عودة فرنسا لحدودها السابقة وتخليها عن مناطق واسعة سيطر عليها نابليون بونابرت خلال حملاته العسكرية بالسنين الماضية. وقد خلّف الانسحاب الفرنسي من هذه المناطق عام 1814 بوادر أزمة أخرى حيث وجد حوالي 11 مليون شخص من متساكنيها أنفسهم بدون دولة.
الوفود الأوروبية بفيينا
أواخر شهر أيلول/سبتمبر 1814، توافد على فيينا عدد هام من كبار الدبلوماسيين الأوروبيين حيث ترأس القيصر الروسي ألكسندر الأول وفد بلاده وأرسل الملك البروسي فريدريك فيلهلم الثالث وزيره كارل أوغست فون هاردنبرغ (Karl August von Hardenberg) لتمثيل بروسيا بينما حلت بريطانيا بالعاصمة النمساوية ممثلة بوزير خارجيتها روبرت ستيوارت (Robert Stewart) وبالنسبة للفرنسيين فقد أوكل الملك لويس الثامن عشر، الذي تم تنصيبه عقب تنازل نابليون بونابرت عن العرش، لوزيره شارل موريس دي تاليران (Charles-Maurice de Talleyrand) مهمة تمثيله بالمؤتمر كما حظيت دول أخرى كإسبانيا والبرتغال والسويد بتمثيل بسيط بالمؤتمر الأوروبي. وقد استقبلت كل هذه الوفود بفيينا من قبل الإمبراطور النمساوي فرنسيس الثاني ووزيره كليمنس فون ميترنيش (Klemens von Metternich).
خلافات وعودة نابليون
ومنذ البداية، كانت بوادر الاختلاف واضحة بين جميع الأطراف حول مسائل حساسة فتنازعوا حول مسألة دوقية وارسو الكبرى ومملكة ساكسونيا كما جاءت مسألة ضم البلجيكيين لمملكة هولندا الكبرى لتزيد من حدة التوتر بين الحاضرين تزامنا مع غضب الوفد النمساوي من قضية الدويلات الإيطالية.
وفي خضم ذلك، شهدت تلك الفترة حدثا لافتا للانتباه حيث فرّ نابليون بونابرت من منفاه بجزيرة إلبا (Elba) ليعود مجددا لفرنسا وينتزع العرش من لويس الثامن عشر لتبدأ على إثر ذلك حملة عسكرية قادتها القوى الأوروبية وأسفرت عن هزيمة بونابرت بمعركة واترلو ورحيله بشكل نهائي عن فرنسا.
إعادة رسم خريطة أوروبا
إلى ذلك، لم يعر المجتمعون بفيينا اهتماما كبيرا لعودة نابليون بونابرت فواصلوا اجتماعاتهم وأنهوا أعمالهم قبل معركة واترلو. وعلى حسب الوثيقة النهائية، حصلت روسيا على الجزء الأكبر من دوقية وارسو الكبرى لتظهر بذلك مملكة بولندا التي سرعان ما وقعت تحت نفوذ القيصر ألكسندر الأول.
من جهة ثانية، استحوذت بروسيا على مناطق بوميرانيا السويدية (Swedish Pomerania) وساكسونيا الشمالية ووستفاليا (Westphalia) وجزء هام من راينلاند بينما وضعت النمسا يدها على لومبارديا والبندقية الإيطاليتين إضافة للمناطق المطلة على البحر الأدرياتيكي، كإليريا ودالماسيا، وتيرول (Tyrol) وسالزبورغ (Salzbourg). أيضا، حصلت السويد على النرويج ووعدت بمنح النرويجيين نسبة هامة من الاستقلالية كما استعادت كل من إسبانيا والبرتغال سيادتيهما وشهدتا بداية انهيار إمبراطوريتهما الاستعمارية. أما البريطانيون فقد حصلوا على جزر بالمتوسط والبلطيق كما هيمنوا على جزر هولندية وفرنسية سابقة بكل من آسيا وأفريقيا وأميركا.
من جهة ثانية، مهّد مؤتمر فيينا للوحدة الألمانية والإيطالية. فبالمناطق الألمانية، تشكلت 39 دويلة ألمانية بعد أن كانت في السابق مقسمة لمئات الدويلات أما بشبه الجزيرة الإيطالية فقد استقر عدد الدويلات الإيطالية عند 7 دويلات فقط.
أيضا، أكد مؤتمر فيينا قبل ختامه على حرية الإبحار والتنقل الدولي بنهري الرين (Rhin) والميز (Meuse) وأدان تجارة العبيد مطالبا جميع الدول بإلغائها.