منذ وقت مبكر من العصر النووي، استكشفت الحكومة الأميركية طرقاً عديدة للحفاظ على سلامة المواطنين والنخب. وتحسباً لوقوع هجوم في أي وقت بقنبلة نووية ذات قوة تدميرية هائلة، اتخذت الجهود المبذولة لحماية النخب والعامة على حد سواء من التدمير السريع أشكالاً جديدة وغريبة في بعض الأحيان، وفق تقرير لمجلة National Interest الأميركية.
فقد تعثر الدفاع المدني في أميركا بسبب الحجم الهائل للمشكلة التي تتمثل في وضع سيناريو عملي ومرن وسريع لإخراج عشرات الملايين من السكان من المدن إلى الملاجئ قبل وصول الأسلحة النووية للعدو. وفي نهاية المطاف، تخلت الولايات المتحدة بهدوء عن مفهوم الاعتماد على الملاجئ لحماية غالبية سكانها من هجوم نووي، واختارت إصلاحاً تقنياً كبيراً في مجال الدفاع الصاروخي بابتكار وتطوير كوكبة من أنظمة الصواريخ الاعتراضية والإنذار المبكر.
مخابئ النخبة
في الوقت نفسه، كانت مفاهيم ملاجئ النخبة نجاحاً أفضل، حيث من المنطقي بشكل نظري أن يكون أحد الأهداف في المعارك، في بعض الأحيان، استهداف قيادة العدو والذي يمكن أن يساعد على ربح أسرع للصراع.
لكن مثل هذه السياسة تفتح الباب على غرفة مظلمة للغاية، كما يعرف العديد من القادة بالفطرة.
منتجع غرينبريار
يشتمل منتجع غرينبريار في ولاية وسترن فرجينيا، وهو وجهة عطلات قديمة كبيرة تزخر بالأناقة الفخمة، حالياً على أثر ينتمي تاريخياً لفترة من الحرب الباردة، عبارة عن مخبأ لأعضاء الكونغرس تم بناؤه في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي تحت ستار توسعة المنتجع.
وتم الاحتفاظ بمحتويات مخبأ غرينبريار التي تضم تجهيزات تعد أثرية نوعاً ما مثل هواتف أرضية ذات قرص دوار وكراسي مكتب من الخشب والجلد الطبيعي والتي تعيد الأذهان مشاهد الأفلام الهوليوودية القديمة قبل عصر الأفلام بالألوان الطبيعية.
11 سبتمبر 2001
إلا أنه لم يتم استخدام مخبأ غرينبريار أبداً للغرض المقصود منه وتم إيقاف تشغيله عام 1992 بعد الكشف عن مكان وجوده وعدم جدوى استخدامه في ضوء تطورات العصر الحديث. وعندما قام أعضاء الكونغرس بإخلاء مبنى الكابيتول في 11 سبتمبر 2001، تم نقلهم إلى مركز قيادة الطوارئ في جبل ويذر بجبال بلو ريدج، الذي يمكن أن يستوعب إيواء عدة مئات من الأشخاص من جميع الفروع الثلاثة للحكومة الأميركية لعدة أشهر.
وكان مصرف الاحتياطي الفيدرالي، جنباً إلى جنب مع وكالات الكونغرس، قد اتخذ خطوات مماثلة حيث تم إنشاء مخابئ سرية تشتمل على خزائن عملاقة مليئة بالعملات النقدية، كإجراء للعمل في أعقاب أي هجوم عسكري نووي محتمل على إعادة المجتمع الأميركي إلى بعض مظاهر روتين ما قبل الحرب اعتماداً على التعاملات السائدة آنذاك من خلال النقد والمصارف.
التنقل والصلابة
غير أنه كلما كان هناك مزيد من التطور في سرعة المقاتلات والصواريخ، كانت المدة المحددة للإنذار والتحذير والإخلاء للحماية من هجوم نووي وشيك تتقلص. وحتى عندما تم تصميم وبناء مخابئ غرينبريار وماونت ويذر، فإن التهديد المتطور يتطلب تدابير أمان أكثر إلحاحاً.
ووفقاً لما ورد في مدونة "أتوميك سكايز": "تم النظر (آنذاك) في حلين هما التنقل أو الصلابة، إذ كان مفهوم التنقل يعني إبقاء الرئيس الأميركي في حالة حركة دائمة على متن طائرة أو قطار أو سفينة، حتى لا يتمكن السوفييت من العثور عليه واغتياله، فيما كانت الصلابة تعني إيواء الرئيس الأميركي في مخبأ بأعماق الأرض على مستويات أعمق مما يمكن أن يصل إليه أي سلاح نووي".
غواصة لأيزنهاور
وفي وقت مبكر من عهد إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور، تم وضع خطة لإبعاده عن واشنطن على متن قارب سريع للبحرية أسفل نهر بوتوماك (لأن المروحيات في ذلك الوقت كانت غير موثوقة للغاية بالنسبة للنقل الرئاسي) إلى سفينة تابعة للبحرية الأميركية تقبع في انتظار الرئيس لتتنقل به في مناطق آمنة في البحر.
وبحسب إفادة المساعد البحري المسؤول عن تنفيذ خطة الطوارئ الرئاسية، الكابتن إدوارد بيتش، كان يمكن نقل الرئيس الأميركي لاحقاً إلى متن الغواصة النووية، يو إس إس تريتون، والتي وصفها بأنها كبيرة بما يكفي ليتم استخدامها كمقر قيادة رئاسي من أعماق المحيط.
طائرة لكينيدي
إلى ذلك مع تولي إدارة الرئيس الأميركي جون كينيدي مقاليد الأمور كانت قد طرأت تطورات كبيرة على نظم الأجهزة المحمولة، لتشمل مراكز قيادة محمولة جواً، مما دعا إلى تعديل خطط الطوارئ تحسباً لأي هجوم نووي محتمل في سياق حرب عالمية ثالثة.
واستقر الأمر على أن يتم إبعاد الرئيس الأميركي عن مناطق الخطر عن طريق الجو وأن يستقل طائرة ضخمة يستخدمها كمركز للقيادة الرئاسية.
لكن تم طرح سيناريو إضافي وهو إذا لم تترك الصواريخ الباليستية العابرة للقارات أي وقت لإيصال الرئيس والقادة الآخرين إلى بر الأمان، فلن يكون متاحاً سوى الاعتماد على المخابئ. ومن ثم اقترح البنتاغون عام 1963 أن يتم إنشاء مركز القيادة العميقة تحت الأرض DUCC.
الإخلاء خلال 15 دقيقة
كما كان من الممكن أن يكون مركز القيادة DUCC عبارة عن كبسولة مضادة للصدمات والتفجيرات محفورة في الصخرة الحية على عمق 3500 قدم تحت واشنطن العاصمة، ويمكن الوصول إليها عن طريق الأنفاق من البيت الأبيض ومبنى الكابيتول هيل والبنتاغون.
كذلك يمكن أن يحتمي ما يصل إلى 300 شخص هناك لمدة تصل إلى شهر بعد القصف برؤوس حربية زنة 300 ميغاطن. وسيستغرق الإخلاء 15 دقيقة فقط، وهو وقت كافٍ حتى بأقل قدر من التحذير.
تكاليف باهظة
وصادف مشروع القيادة العميقة في أعماق الأرض عدة مشاكل، من بينها صغر مساحة المخبأ المُصمم حيث لم يكن ليستوعب سوى نصف عدد الأفراد المطلوبين لإدارة عمليات الطوارئ كمركز للقيادة. كما أنه كان سيكلف مبالغ طائلة توازي نفس تكاليف إنشاء ما يقرب من جميع مواقع القيادة المتنقلة جواً وبحراً مجتمعة.
والأهم أنه لم يكن من المؤكد أن السوفييت لا يستطيعون صنع قنابل أكبر وأقوى ليصل مدى تأثيرها إلى مثل هذا العمق تحت سطح الأرض، فضلاً عن وجود مخاوف من احتمالات انقطاع الاتصال بالعالم الخارجي إذا امتد تأثير الانفجارات إلى هوائيات الاتصالات.
برنامج سري
بعدئذ أدى الافتقار إلى الحماس واندلاع حرب فيتنام، إلى جانب تقليل التركيز الأميركي على الدفاع المدني، إلى تلاشي اقتراح بناء القيادة العميقة تحت سطح الأرض DUCC بحلول منتصف الستينيات. وتمت ترقية مواقع القيادة الطائرة والعائمة وتقوية المرافق الحالية مثل ماونت ويذر.
غير أن مفهوم المخابئ تحت الأرض عاد للظهور مجدداً في عهد إدارة الرئيس جيمي كارتر، بعدما قام سلاح المهندسين بالجيش الأميركي بإعادة النظر في إمكانية تنفيذ هذا المفهوم. وبالفعل تم إنشاء "مكتب المشاريع الخاصة (الذي أصبح فيما بعد مركز تصميم نظم الحماية) عام 1977 للعمل على برنامج سري تابع لوزارة الدفاع.
وتضمنت أهداف البرنامج أن يتم العمل على تحسين مركز القيادة والتحكم العسكري الوطني البديل إلى جانب تطوير معايير ودراسات وتصميم أولي لمركز قيادة وتحكم عميق تحت الأرض شديد الصلابة وقابل للبقاء. وتضمنت الخطط المبدئية لإنشاء هذا المركز بناء هياكل منفصلة لأفراد القيادة والطاقة والوقود ومصادر المياه، بالإضافة إلى وضع تصاميم لتوفير أكثر من 3 أميال من أنفاق سحب الهواء، بالإضافة إلى نظم تهوية من الأعماق إلى سطح الأرض.
لكن "على الرغم من إلغاء الخطط عام 1979، فإن الخبرة والدراية بما يتعلق بالتصميم الوقائي والبرامج المصنفة، التي اكتسبتها إدارة المشاريع الخاصة، من هذا العمل جلبت مشاريع فريدة وبرامج رئيسية أخرى إلى المنطقة"، وفق National Interest.
غموض بشأن هيكل كروي الشكل
وتعرض الصورة الوحيدة المرتبطة بالمشروع السري نموذجاً لهيكل كروي مثل قاعدة قمرية مدفونة ومغطاة بالصخور وشبكة من وسائل امتصاص الصدمات. وتبدو بالفعل آمنة للغاية وباهظة التكاليف، لكن يحيط بها الغموض بباقي التفاصيل.
كذلك تم بالفعل إنفاق مبالغ طائلة منذ الحادي عشر من سبتمبر لأغراض الحماية الوقائية، ويتم إحاطة مصير هذه المليارات من الدولارات بسرية تامة، مما أثار تساؤل في ختام تقرير National Interest حول ما إذا كان ما زال هناك مخابئ عميقة سرية.