في خضم الحرب العالمية الثانية، قاد الجندي البولندي فيتولد بيلكي (Witold Pilecki) واحدة من أخطر المهام ضد النازيين. فعقب الغزو الألماني لبولندا يوم 1 أيلول/سبتمبر 1939، تمكّن هذا العسكري من القيام بمهمة سرية اخترق على إثرها معسكر أوشفيتز للاعتقال والإبادة الذي أداره المسؤول بفرق الأس أس رودولف هوس (Rudolf Höss) وشهد لوحده مقتل ما يزيد عن مليون من المعتقلين.
وبفضل هذه العملية، كشف فيتولد بيلكي بشكل مبكر الفظائع التي مورست في حق المعتقلين بأوشفيتز كما وصف أيضا غرف الغاز وتحدث عن مقتل عدد كبير من الأشخاص يوميا بهذا المعسكر.
سجل عسكري حافل
إلى ذلك، ولد فيتولد بيلكي يوم 13 أيار/مايو 1901 بمنطقة أولنتس (Olonets) لعائلة بولندية عانت منذ سنوات من ويلات النظام القيصري الروسي وسياساته ضد البولنديين. فعقب ثورة بولندا ما بين عامي 1863-1864، نفيت عائلة بيلكي من مقر إقامتها الأصلي كما تعرض جوزيف بيلكي (Jozef Pilecki)، جد فيتولد، للنفي وأرسل لقضاء سنوات عدّة بسيبيريا.
وأثناء فترة حياته، حظي فيتولد بيلكي بسجل عسكري حافل حيث قاتل الأخير مع الجيش البولندي ضمن الحرب البولندية السوفيتية ما بين عامي 1919 و1921 كما ظلّ بالجيش خلال فترة ما بين الحربين قبل أن يشارك في تنظيم المقاومة البولندية ضد الاحتلال الألماني وتأسيس جيش الوطن البولندي عقب الغزو الألماني لبلاده.
وفي خضم فترة الاحتلال الألماني لبولندا، وافق فيتولد بيلكي على المشاركة بعملية سرية لصالح المقاومة البولندية تقضي بالتسلل لمعسكر أوشفيتز لكشف ما يجري بداخله. فمنذ نشأته، أثار هذا المعسكر الريبة والشكوك في نفوس أفراد المقاومة البولندية حيث توافدت أعداد كبيرة من المعتقلين نحوه وانتشرت حوله إشاعات تحدثت عن أعمال تعذيب وإعدامات.
تقرير حول فظائع أوشفيتز
سنة 1940، زوّر فيتولد بيلكي هويّته وانتحل شخصية توماز سيرافينسكي (Tomasz Serafinski) قبل أن يتمكن من دخول معسكر أوشفيتز حيث جعل الأخير نفسه فريسة سهلة لقوات الأس أس التي لم تتردد في اعتقاله بسبب أنشطة مشبوهة. وبعد يومين من التعذيب داخل إحدى الثكنات، أرسل هذا الرجل البولندي نحو أوشفيتز وحصل على هوية السجين رقم 4859.
أثناء فترة تواجده بمعسكر أوشفيتز، نظّم فيتولد بيلكي حركة مقاومة، تكونت من ألف عنصر، جمع من خلالها المعلومات ونقلها لرفاقه خارج المعتقل. وبفضل ذلك، بلغت مسامع الحلفاء أخبار عن وجود معسكر تجري بداخله تجارب على البشر وعمليات إعدام باستخدام غرف الغاز.
وبعد قضائه لنحو عامين ونصف داخل أوشفيتز، تمكن هذا الجندي البولندي من الفرار انطلاقا من مخبزة المعسكر مستغلا تراجع عدد الحراس بسبب عطلة عيد الفصح.
من خلال تقريره حول معسكر أوشفيتز، تحدّث فيتولد بيلكي عن التجارب التي أجريت على البشر وغرف الغاز وعمليات الإعدام الجماعية كما أكد على وجود أفران قادرة على حرق آلاف الجثث يوميا داخل المعسكر. ومع وقوع هذا التقرير بين يدي مكتب الخدمات الاستراتيجية بلندن، رفض المسؤولون كل ما جاء به واعتبروه تهويلا مؤكدين أنه يفتقد للمصداقية.
إعدام على يد ستالين
إلى ذلك، مثّل تقرير بيلكي أول تقرير شامل عن أهوال معسكرات الهولوكوست يقع بين أيدي الحلفاء. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وتحرير معسكر أوشفيتز، تأكد الجميع من صدق محتواه.
عقب فراره من أوشفيتز، شارك فيتولد بيلكي بالعديد من عمليات المقاومة ضد النازيين. وعلى إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، اعتقل الأخير من قبل الشرطة السرية الستالينية بتهمة التعاون مع الاستخيارات البريطانية ومناصرة الإمبريالية. وعقب محاكمة صورية استمرت لستة أشهر، أعدم فيتولد بيلكي رميا بالرصاص يوم 25 أيار/مايو 1948.