ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، باشر الأوروبيون، وعلى رأسهم البرتغاليون، بإنشاء قواعد ومحطات تجارية بمناطق السواحل الغربية للقارة الإفريقية لإجراء مبادلات مع قبائل السكان الأصليين. ومقابل بضاعة صنعت ببلدانهم كالبنادق والبارود والكحول، حصل الأوروبيون على العاج والذهب والعبيد الذين نقلوا أساسا نحو القارة الأميركية للعمل بالحقول.
إلى ذلك، لم يتجرأ الأوروبيون على التوغل بشكل كبير بالداخل الإفريقي، حيث يذكر التاريخ بضعة محاولات، لم تلقَ نجاحا كبيرا، قام بها عدد من المغامرين من أمثال ليون الإفريقي، وأصيل غرناطة، والإسكتلندي جيمس بروس (James Bruce) الذي حاول تتبع مصدر النيل عقب توغّله بالحبشة. وفي الأثناء، عرفت عملية اكتشاف القارة الإفريقية نقلة نوعية مطلع القرن التاسع عشر. فبفضل المغامرة الشهيرة التي قادها المغامر الاسكتلندي مانغو بارك (Mungo Park) حصل الأوروبيون على أول وصف للمجتمعات التي قطنت إفريقيا جنوب الصحراء قبل فترة الاستعمار.
نجاح أول رحلة استكشافية
وقد انطلق الطبيب الاسكتلندي مانغو بارك، المولود يوم 20 أيلول/سبتمبر 1770 بمنطقة سيلكركشاير (Selkirkshire)، في أولى رحلاته الاستكشافية على متن السفينة وورشستر (Worcester) باتجاه سومطرة (Sumatra). وبفضل نجاح هذه المغامرة الأولى، انتدب الأخير للعمل مع مؤسسة الجمعية الإفريقية التي أوكلت له عام 1795، وهو في الرابعة والعشرين من العمر، مهمة استكشاف مناطق النيجر.
وخلال هذه المغامرة الأولى بإفريقيا، صعد مانغو بارك نهر غامبيا، رفقة مساعدين إفريقيين فقط، وانطلق نحو داخل القارة قبل أن يقع أسيرا في قبضة أحد الحكام المحليين. وبعد معاناة استمرت 4 أشهر، فرّ هذا الطبيب الاسكتلندي من الأسر وأصيب بمرض نجا منه بأعجوبة، بعد نحو 7 أشهر، بفضل الرعاية التي قدّمها له عدد من سكان إحدى القبائل المحلية.
يوم 21 تموز/يوليو 1796، بلغ مانغو بارك نهر النيجر بمنطقة سييغو (Segou) بمالي حاليا ليبدأ على إثر ذلك رحلة العودة نحو بريطانيا التي استمرت لحدود أواخر العام 1797.
اختفى في ظروف غامضة
مع عودته لوطنه، كسب مانغو بارك شهرة كبيرة بفضل التقارير الصحفية التي تناقلت أطوار مغامرته الإفريقية. وبفضل ذلك، حصل الأخير عام 1803 على شرف قيادة رحلة استكشافية ثانية رافقه خلالها هذه المرة العشرات من العسكريين والمختصين البريطانيين.
يوم 31 يناير 1805، غادرت هذه الرحلة الاستكشافية ميناء بورتسموث (Portsmouth) باتجاه غامبيا. وبسبب كثرة عدد المشاركين وكمية المؤن والعتاد، استغرقت هذه الرحلة أشهرا لبلوغ مقصدها. فضلا عن ذلك، فارق عدد هام من الأوروبيين المشاركين بها الحياة بسبب أمراض كالحمى والزحار.
مع وصوله، قرر مانغو بارك عبور نهر النيجر، رفقة ما تبقى من مساعديه، عن طريق سفينة صغيرة صنعت بشكل رديء حسب الإمكانيات المحلية. لكن وفي ظروف غامضة، اختفى هذا الطبيب الاسكتلندي، رفقة ما تبقى من أفراد البعثة، لتعلن وفاته في حدود العام 1806.
بفضل رحلاته نحو هذه المناطق، قدّم مانغو بارك، عن طريق كتاباته، أول وصف لإفريقيا جنوب الصحراء قبل الحقبة الاستعمارية. وقد تحدّث هذا الطبيب الاسكتلندي حينها عن كره شديد حمله سكان هذه المناطق ضد المور بشمال القارة الإفريقية ووصف الحرب لدى هذه القبائل التي كانت حروبا معلنة أو غزوات للحصول على العبيد.
أيضا، وصف مانغو بارك تفشي المجاعة بالمنطقة وانتشار ممارسة العبودية حيث يلجأ القادة للاستيلاء على أناس أحرار لتحويلهم لعبيد قبل نقلهم نحو الساحل الغربي لبيعهم للأوروبيين الذين يتكفلون بنقلهم صوب القارة الأميركية. من ناحية أخرى، وصف مانغو بارك المناظر الرائعة والطبيعة الخلابة كما تحدّث عن الخطر الذي شكّلته الحيوانات المفترسة بالمنطقة.
وإضافة لوصفه للمبادلات التجارية هنالك، تحدّث مانغو بارك عن التخلف التقني الذي عاشت على وقعه قبائل إفريقيا جنوب الصحراء وتساءل عن إمكانية قدوم الأوروبيين لتعليم هذه الشعوب لغة جديدة ونشر الديانة المسيحية بينهم.