فكرة السلام في بلاد مزقتها الحروب منذ 7 سنوات دامية، طرحت عشرات المرات على طاولة المفاوضات، وفي كل مرة تنشب خلافات اكثر شراسة، وتتعمق هوة الحل السلمي بين أقطاب الصراع، فتكبر صفقات التهدئة، ويزداد فتيل النزاعات اشتعالاً، لكن الواضح أن خطوط النار لن تنطفىء على الأرض، من دون إيقاف الوقود البشري من جنود غالبيتهم العظمى أطفال، إلى جانب ذخيرة تصرف يومياً بملايين الدولارات، ويرى مراقبون ومحللون أن قطع إمدادات التجنيد والسلاح، تمولهما وتديرهما جهات خارجية تحرك الجبهات بالريموت، يقع ضحيتها آلاف الشباب القاصرين، الذين توزعهم أطراف النزاع على محارق الموت الرخيص، مقابل راتب شهري لا يسمن ولا يغني عن جوع.
وقود الفتن.. وسماسرة بأرصدة بنكية على جثث اليمنيين
هؤلاء الفتية هم وقود الفتن وضحايا مآسي الحروب الأهلية، لن تتوقف طواحين الحرب مالم يعودوا سالمين إلى ديارهم. بيد أنهم لا يملكون خياراً للتوقف عن منح أرواحهم رخيصة في ساحات القتال، بل إن غالبيتهم باتوا يعتبرون الحرب مصدر رزق مهم لهم ولأهاليهم، فلا تهمهم شعارات سلام، أو مبادرات تهدئة لحقن دماء، فإذا كان هؤلاء يستنفعون من إطالة أمد الصراع، فكيف بسماسرتها الكبار الذين تضخمت أرصدتهم البنكية على جثث اليمنيين.
أدوات صدّ برؤى شباية لوقف أفواه الحرب عن التهام الإنسان
في المقابل، تشتعل منصات السوشيال ميديا كأدوات صدّ ورد على ثقافة العنف، فتزدهر المبادرات الداعية للسلام، بعضها تتخذ طابعاً فنياً وأخرى ذات صبغة إعلامية ومجتمعية، تختلف في الشكل لكن المحتوى والرسالة واحدة، إعلاء راية السلام وتجويد قيم التعايش لوقف أفواه الحروب عن التهام الإنسان، فتجدها توفر منصات تفاعلية للتعبير عن رؤى شبابية متنوعة التوجهات بقصد نشر التوعية وصناعة الرأي ومواجهة النار بلغة السلم.
مشروعات وطنية لتوعية المتضررين والجنود المتورطين بأهمية صون الأرواح
"العربية نت"، تفتح ملف المباردات اليمنية بقوتها الشبابية الناعمة على منصات التواصل الاجتماعي، لوقف آلة الحرب من أجل إيجاد خارطة حل في طريق السلام الوعر. خطى مباركة لتوعية المتضررين والجنود المتورطين بأهمية صون الأرواح نحو الإصلاح والتنمية وبناء دولة تركن للأمان والاستقرار، عبر مشروعات قيمية وطنية، شعارها التسامح والتعايش وقبول الأخر لتوطيد أواصر محبة في نسيج مجتمع يمني، ينبذ ثالوث العنف والإقصاء والتطرف بكافة أشكالها.
"السلام الذي نريد" استهدف شرائح من الناشطين وهكذا جاءت نتائج الاستبيان
ووفق معلومات ونتائج استبيان حصلت عليها "العربية نت" يرى مشاركون في استبيان حمل عنوان "السلام الذي نريد" استهدف شرائح مختلفة من الناشطين في المجتمع اليمني، تؤكد أن المفاوضات اليمنية السابقة لم تحرز تقدماً ملحوظاً، لعدد من الأسباب أهمها: وجود مصلحة اقتصادية لأطراف النزاع في استمرار الحرب (59%)، وتدخلات الدول الأخرى، إقليمية ودولية (43%)، وعدم وجود ثقة كافية بين أطراف النزاع (42%).
نازحون إلى المخيمات النائية والارتماء في جحيم المجاعة وخطر الأوبئة
وفي ظل احتدام خلافات عقب كل مبادرة سلام تجمع أطراف النزاع، يجمع الناشطين أن الطرف الأكثر حرصاً على إنهاء الخلاف في اليمن، هم المدنيون الأبرياء الذين يقفون في مهب النار، يحاصرهم الخوف والفقر والجوع، لا يجدون مهرباً من الخراب سوى بالنزوح إلى مخيمات نائية والارتماء في جحيم المجاعة وخطر الأوبئة، ويتندرون تعليقاً على مبادرات السلام الأممية، قائلين: "من لم يفهم لغة السلام من أيام السلم، لن يفهمها أيام الحرب والدمار، ذلك لسان حال كثيرين، طفح بهم القهر في ظل ظروف اقتصادية سيئة، بات الجميع بأمس الحاجة إلى لغة تهدئة تخفف وجع الحرب، كما بات أطراف النزاع أنفسهم على يقين أن السلام سيعم في نهاية المطاف مهما تعنتوا أو أمعنوا في إزهاق دم اليمنيين فإن طاولة السلام هي نافذة الخلاص الوحيد".
حملات مناصرة إنسانية لإطفاء جذوة الأزمة اليمنية
إلى ذلك، حرص شباب يمنيون ينشطون في العمل التنموي والإعلامي والإنساني، على تجسيد السلام عبر مبادرات تكسر الحصار، تنقل صورة المآساة اليمنية من قلب نيران الحروب، لتخاطب وجدان العالم الحرّ، لتحقيق حملات مناصرة إنسانية لإطفاء جذوة الأزمة اليمنية. من خلال تجند أصواتهم وكلماتهم بوصفها أسلحة ناعمة أمام أفواه القاذفات.
مبادرة "لحظة" مشاهد مرئية ومسموعة عن آثار الحرب على حياة المدنيين ووجع الوضع الإنساني
وهو بالضبط ما تترجمه مبادرة "لحظة" وهي حملة شبابية مهتمة بصناعة ونشر محتوى هادف يقدم رؤية ورسالة لتحقيق السلام في محافظة الحديدة اليمنية من خلال إعداد قصص مكتوبة ومصورة ومشاهد مرئية ومسموعة عن آثار الحرب على حياة المدنيين ووجع الوضع الإنساني ودعم قضايا حقوق الإنسان واستقطاب المرأة والشباب للمشاركة في عملية التنمية وتقديم المناصرة لهذه القضايا بناءً على معلومات من مصادر ميدانية في مختلف مناطق البلاد. فقد اختيرت "مبادرة" لحظة واحدة من أبرز المبادرات الشبابية المؤثرة في مسابقة بُناة السلام، لاشتغالها عبر الإنترنت في نشر محتوى مكتوب ومرئي ترك صدى إيجابي وإنساني واسع.
مبادرة "اُولف" يتابع ربع مليون تدعو للسلام وتحتفي بقيم التعايش
مبادرة أخرى، تستثمر الإعلام وسيلة ومنصة ورسالة، للعب دور تفاعلي مهم وملهم في صناعة رأي محلي ودولي، تهدف تمكّين المجتمع من التزود بمعلومات ذات قيمة حول مستجدات الحرب بين أطراف الصراع، لخلق وعي لدى الجمهور بضرورة إيقاف الحرب واستئناف عملية السلام لإنهاء الأزمة السياسية في البلاد، ووفق ناشطون فإن منصات الإعلام التقليدي والاجتماعي ساهمت في التأثير على ملايين المتضررين جراء الحرب وحشدت أصواتهم ووجهت رؤاهم نحو إحياء عملية السلام.
فعلى صفحة في فيسبوك، يتابعها أكثر من ربع مليون يمني، استطاعت مبادرة "اُولف" التي تأسست بداية عام 2021، أن تحتل مساحة كبيرة في أوساط المجتمع اليمني، على الرغم من عمرها الصغير، تميزت بأفكار بسيطة تلامس قلوب الناس الراغبة في الحياة، تحتفي بإحياء القيم النبيلة كالتعايش والتصالح والتسامح، والتفكير بإيجابية، وتعزيز الهوية والاعتزاز بالجذور الثقافية التي تنحدر من حضارة عمرها أكثر من 7 آلاف سنة.
وحسب متابعين وناشطين، تمكنت المبادرة من تحقيق فكرة التعود الإيجابي، وهذا أيضاً كان سبب في اختيار اسم "أولف" فهو مستوحى اللهجة الدارجة والقريبة لكل فئات المجتمع، بحسب القائمين على المبادرة، والسعي لغرس مبدأ التعود على كل ماهو إيجابي وحقيقي عبر إقامة نشاطات سواء كانت ميدانية أو رقمية تلمس المجتمع وتعزز فيه القيم وتكون قريبة منهم ومن أفكارهم وهمومهم علناَ، لغرس بذرة حقيقة تظهر نتائجها على المدى الطويل. تسعى المبادرة التي ترأسها يسرى الجاكي لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: بناء السلام وتعزيز الهوية والتنمية.
"راديو السلام" ينشر خطاب السلام ويقود مواهب الشباب نحو التنمية وبناء الدولة
وفي السياق، لمعت فكرة إعلامية، احتوتها منصة "راديو السلام"، أول راديو متخصص في تعزيز خطاب السلام في اليمن يهدف إلى نشر ثقافة التعايش متبعاً ميثاقاً تحريرياً مستقلاً أساسه بناء مجتمع متماسك ينشد سلاماً منفتحاً على مختلف الثقافات والفنون، يدعم إبداعات ومواهب الشباب نحو تحقيق أهداف تنمية مستدامة.
"صحافة السلام" تجد صعوبة في مقارعة وسائل إعلامية ممولة من قبل أطراف النزاع
تعليقاً على تلك المبادرات الإعلامية والاجتماعية، يقول المدير التنفيذي لمؤسسة صحافة السلام سالم بن سهل: "تعيش اليمن أزمة وصراع وحرب منذ سنوات، نحن بحاجة ماسة لتطبيق مختلف النظريات ونتبع منهجية صحافة السلام، ولأن تطبيقها في ظل وسائل إعلامية ممولة من قبل أطراف النزاع يبدو في غاية الصعوبة، لكن مع وجود راديو السلام فنحن نتيح الفرصة للصحفيين والشباب بالتعبير عن رأيهم بكل حرية وينقلوا رسائل السلام بكل شجاعة"
إشراقة إعلامية تنبثق من بين ركام الحرب
فيما يرى غسان عبدون عضو مجلس الأمناء بمؤسسة صحافة السلام أن راديو السلام، إشراقة إعلامية تنبثق من بين ركام الحرب، مشيراً أن السلام لن يجد له أرضية بمعزل عن وقف خطاب العنف. كما إن تأثير الإذاعات يمثل أداة قوية للإنعاش من أجل المرونة والمصالحة، وفق ما يؤكده البروفسور ستيفن يونقبلود مدير مركز صحافة السلام العالمي، معتبراً إن راديو السلام هو نافذة أمل تجعل اليمن مكاناً أكثر سلاماً، ويضيف:"أعلم أنه الأمر يبدو وكأنه مهمة مستحيلة ولكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة".
الشباب هم البذرة الأساسية للإعلام والمبادرات تعزز انتمائهم وحبهم لوطنهم بمعزل عن التفرقة القبلية والطائفية
وفي ظل احتدام الحرب، يعيش ملايين اليمنيين دراما مآسي تكبر فجائعها، وتتسع مجازرها، وسط تراشق خطابات تدعو إلى القتال والبؤس والعنف وهدم الإنسان، من هنا تولد حاجة ملحة إلى إعلام مجتمعي تنويري يحمل رسائل نبيلة تهدف إلى تمكين المواطن والمواطنة من اتخاذ قرارات مبنية عن علم وليس عن جهل، ونشر ثقافة السلام والتعايش، وفق إفادة مديرة برنامج اليمن لدى انترنيوز، سوسن بن شيخ.
"تأسيس راديو السلام يعد أحد البوادر الإيجابية في اليمن، ووجود الشباب في الإعلام يجب ألا يكون مرتبط بالرغبة فحسب، بل أيضاً يجب أن يرتبط بالمسؤولية الأخلاقية الإعلامية". تلك تأكيدات الدكتور وليد الأنصاري ممثل وزير الاعلام والثقافة الكويتي، ومدير إدارة العمل التطوعي بوزارة الشباب والرياضة: ويلفت: "متى ما تسلح الشباب بحبهم لوطنهم ونبذهم للتفرق والطائفية والقبلية وكل الأمراض المجتمعية الموجودة، فسيصبح الشباب هم البذرة الأساسية للإعلام".
"يمن بيس" لتدريب صحفيين شباب لانتاج مواد تناصر عملية السلام
وتفيد الدكتورة نادية السقاف وزيرة الإعلام اليمنية سابقًا: "الصحفيات يعتبرن موردا هاما في تهيئة البيئة المحلية نحو السلام وتمثيل الفئات المجتمعية خاصة المهمشة وإيصال أصوات النساء وأفكارهن الداعمة للسلام والتسامح وفي بناء الأجيال القادمة بشكل يضمن السلام المستدام وتنمية المجتمع بشكل سلمي ومتعافي فاليد التي تهز المهد تستطيع بناء العالم".
لم تتوقف المبادرات هنا، فلا يزال صداها ينطلق في مختلفة المخافظات اليمنية، ففي مدينة الحديدة، تم تدشين مبادرة "يمن بيس" في أبريل 2018 تحت وطأة الحرب الدائرة في اليمن، وتسعى لإحلال السلام المستدام وتحقيق التنمية من خلال الأنشطة والمشاريع التي يتم تنفيذها. قامت المبادرة بالعديد من الأنشطة منها تدريب صحفيات وصحفيين لإنتاج مواد تناصر عملية السلام في اليمن.
صالون أدبي يبث انشطة تقاوم الحصار في مدينة أصبحت شوكة في حلق الظلام
وفي مدينة تعز اليمنية، تشهد مبادرة "ميّون" زخماً في إبراز دور الشباب في ترقية رسالة السلام، من خلال صالون أدبي ينظمه شباب وشابات في مدينة التي أنهكها الدمار والقصف، ويقام نصف كل شهر، تتخلله فقرات فنية وأدبية وشعرية، وينشدون فيه الوئام والسلام والحرية في زمنِ الحرب، يؤكدون من خلال فعالياته وأنشطته أن مدينة تعز المنهكة، عبر كل جيل مستمرة دائماً في مقاومة الحصار، لتكون شوكة في حلق الظلام.