البلاد التي وصفت بالسعيدة منذ 7 آلاف سنة، أصبحت جاثمة بين ركام الحروب على مدى 7 سنوات، بلاد موجوعة أمام تاريخها ومفجوعة باندثار هويتها وموروثها الغني الذي طحنته الصراعات والفتن، اليمن المنهك المتعدد الثقافات الضاربة في جذور التاريخ البدائي للإنسانية، أضحى اليوم جنازة محمولة على كتف المآسي.
إشعاعات ثقافية تضيء سيرة أقدم الحضارات الإنسانية
إلى ذلك، كانت إشعاعات الثقافة والتنوير منذ آلاف السنين، ولا تزال هي رهان الخلاص من عصور الظلام، وحاجز الصدّ لاستعادة الهوية اليمنية واستدعاء تمائم التاريخ الغائب، وهذا ما يجسده جناح "أحفاد سبأ" ضمن معرض إكسبو دبي 2020، فعلى رغم حالة الحرب التي يعيشها البلد المثقل بفواتير الوجع والمجاعة، إلا إنه يأبى أن يكون في معزل عن تقديم رؤيته في صناعة المستقبل، عبر منصة حضارية مصغرة عن اليمن الكبير، تستعرض بعض نماذج الاستدامة وكنوز التراث والموروث التاريخي الغني والمتنوع، فاتحةً صندوق الإبهار حتى آخره، تروي سيرة واحدة من أقدم الحضارات الإنسانية عراقة في العالم. كما يكشف مكنونات وإبداعات العقل اليمني في مجالات الزراعة والطاقة البديلة والعلوم والفن العماري والتطوير الجغرافي والمادي، وعبقريته الفائقة التي خرقت قوانين الطبيعة منذ آلاف السنين، لتقدم للبشرية نماذجاً وعلوماً نادرة للمعرفة.
وتتجلى تلك الشواهد على الأرض في صهاريج عدن والشواهق المبنية بالطين في شبام حضرموت، وفنون ترشيد أنظمة الري القديم للمدرجات الزراعية الجبلية في وديات اليمن وسهوله وتلاله التاريخية.
كنوز ملموسة في متحف رقمي متحرك
ووسط إقبال جمهور الزائرين من مختلف أجناسهم وأعراقهم على البلاد التي لا تزال في قبضة الحرب، جالت "العربية.نت" في أرجاء الجناح الذي اختير له اسم "أحفاد سبأ"، لتجد على الواجهة تعابير السلام والتسامح لكل الشعوب، إنها بلد مصغر لليمن المحطم بسبب الحروب، لكنك لن تجد هناك آثار للقصف أو بقايا ركام الدمار ولن تسمع صوت الرصاص والقنابل، بل ستجد مكتبة غنية تتحلق حولها الأنظار، تستقبل الجميع برحابة وحب، تأخذهم برحلة بصرية ملهمة إلى دهاليز التاريخ الغابر لما قبل 7 آلاف سنة، إلى مهد الحكمة الأولى، وبدء الحضارة الإنسانية، من حيث تسطع شمس المعرفة التي أضاءت بنورها كل شيء، بدءاً من قمم الجبال الشاهقة إلى أعماق البحر. لتكشف لهم ابتكارات العقل البشري التي ألهمت العالم منذ فجر التاريخ، وتقدم لهم كنوزاً ملموسة ضمن مكتبة تشبه متحفاً رقمياً متحركاً، تصفه الشابة اليمنية نور مقدمة الجناح، بأنها تضم نتاجات ومؤلفات شعراء وأدباء يمنيون حققوا امتياز الانتشار عالمياً، وتمت ترجمة كتب بعضهم إلى أكثر من 17 لغة، كما تحتوي أيضاً تشكيلة من أثمن الفنون والقطع التاريخية بكافة أشكالها وأندر المخطوطات على وجه الأرض.
عجائب البناء والهندسة والرّي باستخدام ألواح الهواء والطاقة الشمسية
وتواصل نور حديثها لـ"العربية.نت" عن ركن الاستدامة، فتقول:"إن الاستدامة في اليمن موضوع قديم، فقد كان اليمنيون أول من استخدم الطاقة البديلة منذ مئات السنين، تتجسد في ألواح الهواء والطاقة الشمسية، وخير مثال على ذلك سد مأرب العظيم الذي كان يغطي نحو 4 آلاف فدان من الأراضي الزراعية، وكان فيه بوابة متخصصة تسمح بانسياب الماء بشكل دقيق ومدروس إلى الأراضي المجاورة له".
أما بالنسبة للعمارة فكانت اليمن، بحسب نور، تمتلك أولى ناطحات السحاب في العالم تم بناؤها بالطين قبل نحو 600 عام في مدينة شبام بحضرموت، ويبلغ ارتفاع بناياتها بين 200 إلى 300 متراً، وما تزال قائمة حتى اليوم ومأهولة بالسكان. إلى جانب صنعاء القديمة التي بنيت بالطين أيضاً، وتتميز بكونها مكيفة طبيعياً أي أنها توفر البرودة عندما يكون الجو حاراً، وتوفر الدفء بالداخل عندما يكون الطقس بارداً في الخارج بفضل تكويناتها وهندستها المعمارية الذكية.
كما تزخر اليمن، والحديث لنور، بالكثير من المسطحات والمدرجات الزراعية في إب الخضراء ومدينة يافع وتعز والمحويت وريمة وحجة وغيرها حيث تسمح المدرجات بزراعة أصناف مختلفة فيمكن زراعة البن في مدرج وفي أخر زراعة فاكهة أو شعير، أي أنها تسمح بزراعة أكثر من صنف نباتي في مسطح واحد.
سيوف عمرها 140 سنة وأندر جنبية صيفانية وتمثال طفل يمتطي أسداً
وفي السياق ذاته، يعرض الجناح نماذج من المجوهرات اليمنية مثل الفضة والعقيق والكهرمان التي اشتهر بها اليمن قديماً، إضافة إلى بعض العملات التي يعود أصلها إلى مملكة قتبان قبل نحو 350 عاما قبل الميلاد. كما تبرز معروضات أخرى مثل أنواع الخنجر اليمني "الجنبية" حيث سميت كذلك كونها تلبس على الجنب، وتعد "الصيفاني" أجودها، وتستلقي في الركن المجاور سيوفاً قديمة تعود إلى القرن الرابع عشر ميلادي، وبندقية إلى القرن الثامن عشر ميلادي، وتمثال للملك ذمر علي يهبر الثاني، أحد ملوك مملكة حمير اليمنية الذي حكمها في القرن الرابع بعد الميلاد، وتمثال لفتى صغير يمتطي الأسد، دلالة على صلابة اليمني وشجاعته في صغره وأسلوب تعايشه مع أشرس كائنات الطبيعة منذ آلاف السنين.
مخطوطة يمنية مكتوبة بخط اليد وكاتب هو الأندر يصف إبداع أمة العرب
ويزين خط المسند جداريات الجناح من الداخل، بوصفه أولى الشواهد التاريخية والأبجديات الموجودة في العالم، ويعود تاريخها إلى 3000 سنة منذ أيام مملكة سبأ وحمير، ويكتب من اليمين إلى اليسار، ويقابل اللغة العربية بعدد الحروف والأصوات، وقبل الزوار بشغف لاستكشاف وقراءة دور علماء الدين اليمنيون القدامى في استنارة الثقافة العربية، بعد أن تحولت بلادهم اليوم الى مناهج عنف وطائفية تذكي لهيب الصراعات، أعادت الجيل الجديد الى فتن عمرها 1000 عام.
فهذه تميمة الحظ في الجناح، حسب توصيف المقدمين، وهو مخطوطة عمرها 300 عام، لمؤلفها عبدالله السّلمي الوصابي الشهير بـ"بالسّانة" والمتوفى في 1710 ميلادية، ويوصف بأنه واحد من أندر الكتب وأكثرها دهشة، فهو يمثل علامة بارزة في إبداع أمة العرب وآدابها، ويجسد عبقرية اليمنيين في الخوارزميات والرياضيات.
فإذا قرأت الصفحة كاملة من اليمين إلى الشمال تلاحظ أنها مادة الجغرافيا، وإذا قرأت الصفحة نفسها من الشمال إلى اليمين تلاحظ أنها مادة التاريخ، وإذا قرأت الصفحة نفسها عمودياً من أعلى إلى أسفل، أي تقرأ الكلمة الأولى وبعدها التي تحتها إلى نهاية الصفحة تجد مادة أخرى كالعروض، وإذا قرأت من أسفل إلى أعلى تجد مادة التاريخ. بمعنى أن كل صفحة مدمج فيها أربعة دروس من أربع مواد، والكلمات موزونة، واللافت أن كل سطر عدد حروفه نفس عدد حروف السطر الذي بعده، والكلمات صحيحة 100%، عندما يقرؤه الزوار تظهر الدهشة على عيونهم.
استلهام خوارزمياته لدمج 7 مواد دراسية في كتاب واحد بالذكاء الاصطناعي
ويصفه رينيه ألنسو، مستشرق فرنسي زائر يتقن اللغة العربية، بـ"قطعة واقعية من عالم السحر، يشبه خدعة بصرية حقيقية تعكس قدرات خارقة لعجائب العقل اليمني". ويفسر رينيه وضع الكتاب ضمن خانة الاستدامة، بأن تلك رسالة ذكية من القائمين في الجناح، "بكوننا نحن المهتمين يمكننا الاستلهام من خوارزمياته في عصرنا الحالي، فعلى سبيل المثال يمكننا اختزال 7 مواد علمية لطلاب هذا الجيل مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات وسواها بواسطة الذكاء الاصطناعي ودمجها جميعاً في كتاب علمي منهجي واحد".
حكاية خط المسند وعلاقته بالعرب العاربة
وفي الركن الآخر، يتوقف الزوار عند الواجهات القمرية التي تزين الجناح، وتتكون من الجص والزجاج وألوان طبيعية يشتهر بها المعمار اليمني، ويضيء سؤال لجذب فضول الزوار، "لماذا سميت اليمن يمناً؟"
ويجيب الشاب اليمني بالجناح، المتخصص بدراسة وكتابة وتفسير حروف وأشكال الخط الحميري القديم، فيقول لـ"العربية.نت" إن اليمن سميت كذلك للتيمن، ولكونها تقع على يمين الكعبة، تماما كما سميت الشام كذلك لوقوعها في شمالها أيضاً.
ويضيف: "خط المسند يتكون من 29حرفاً، وهو الخط الرسمي لمملكة سبأ وحمير، وهم العرب العاربة، والتي كانت تجارتها تمتد حتى موانئ غزة بفلسطين، وكان يطلق عليها أرض السعيدة"، مشيراً إلى أن هناك خط أخر اسمه "الزبور" كان يكتبه العامة في المراسلات والمداولات اليومية.
"ليست أرضاً سعيدة فحسب بل أعجوبة"
واعتبر منتصر عيران، مهندس جزائري، أن زيارته ملهمة إلى جناح اليمن، لما تكتسبه من خصوصية ثقافية، فقال إن اليمن على الرغم ما يمر به من ظروف حرب، إلا أن مشاركته تمثل إشعاعاً تنويرياً وضوءاً معرفياً عن إبداعات الإنسان اليمني القديم في تكييف عناصر الطبيعة لتحقيق تنمية بشرية مستدامة. وأضاف:" أنا منذهل أمام عبقرية التصميم الهندسي في البناء والزراعة والريّ".
وقالت نيكوندا إلسي، قادمة من جنوب إفريقيا، إن جناح اليمن، تفوح منه رائحة الأصالة وعبق التاريخ، وبحكم دراستها للتاريخ الإنساني، فقد ألمهمها الجناح بالكثير من المعارف ومكتنزات الثقافة وصندوق التاريخ الآسر والساحر. وتوقفت نيكوندا عند مخطوطات وتماثيل قديمة، وأضافت: "اليمن لا تستحق أن تعيش في الحرب، إنها قطعة ثمينة من حضارة أسطورية لم تكن أرضاً سعيدة فحسب بل أعجوبة".
مناهل ثابت.. قوة ناعمة برؤية عبقرية من طينة الملكات
هذا البلد لم يستسلم للظلام، ها هي تباشيره تشرق عبر إكسبو دبي 2020، مبرزاً أجمل وجه ثقافي وحضاري لليمن، يضيء في جنباته على موروثات ثقافية واشتغالات حضارية جميلة ينقل من خلالها رسالة سلام حقيقية، تقف وراء هذه الإطلالة التصميمية المهيبة بما تزخر به من مكنونات ورموز تاريخية. قوة عبقرية ناعمة من طينة الملكات اللواتي حكمن اليمن بحنكة وحسن تدبير. إنها الدكتورة العالمة مناهل ثابت، التي تطوعت في إدارة وبناء وهندسة جناح اليمن في إكسبو دبي 2020، واستطاعت أن تعيد حياكة تاريخ ملوك حمير، وتستعيد فراسة بلقيس وبصيرة سبأ وحكمة أروى، لتكون سفيرة تنوير وسلام إلى العالم، لتقدم دروساً في فنون التسامح والتعايش لكل أمراء الحروب وتجار الأزمات الذين شغلتهم المصالح عن إيقاف شلالات الدم التي شوهت معالم بلاد الحكمة اليمنية، هؤلاء الذين كانوا الأرق قلوباً، باتوا الأجلف عناداً وتعنتاً في كل صفقات التهدئة ومشاريع الهدنة.
"أحفاد سبأ" يقدم للعالم قبسات من تراث ثقافة غنية بالمعرفة والعلوم
"أحفاد سبأ"، وفق د. مناهل ثابت هو العنوان الذي تم اختياره لإظهار وجه اليمن الآخر وتقديم قبسات من تراثه المنسي إلى العالم، الجناح الذي يوزع الدهشة بكميات هائلة، وتتدفق من أرجاءه موسيقى السلام بلا توقف. هنا اليمن الذي خذله أهله، هنا الأمجاد تضيء والتاريخ يستعيد وهجه، تماماً كما وصفه تيموثي ليندركينغ، المبعوث الأميركي إلى اليمن، معبراً عن انطباعه تجاه ما وجده وألمّت به حواسه، في جناح "أحفاد سبأ" قائلاً: "اليمن ليس مجرد موضوع حرب، إنه يتعلق بثقافة غنية في المعرفة والعلوم والابتكار يمتلكها هذا البلد..".
رسالة سلام تحلق على جناحي الجمال والإبهار
من جهتها ردت د. مناهل مؤكدة بأن غاية الجناح اليمني في معرض إكسبو 2020 دبي هي إبراز أجمل وجه ثقافي وحضاري لليمن، وبث رسالة سلام حقيقية من خلاله، "وهو ما استشعره المبعوث الأميركي لليمن حتماً". وأضافت د. مناهل: "نعد بالاستمرار في نقل صورة حضارية مشرقة عن اليمن في المحافل الإقليمية والعالمية".
د. مناهل، التي كرست جهدها ووقتها منذ عامين من انطلاق إكسبو 2020، في وضع رؤية تصميمية تحاكي بلدها اليمن، نجحت بالفعل في تجسيد كل عناصر الإبهار ومقومات الجمال الأسطوري والتأثير البصري والوجداني.
ووراء بناء جناح اليمن لم يكن هناك مصادر دعم أو تمويل لتجهيزاته من جهات يمنية سواء رسمية أو خاصة، وفق ما تؤكده د. مناهل: "على الرغم من وجود أعمدة ورؤوس أموال ضخمة وشركات عابرة للقارات في اليمن، إلا أن أحداً من هؤلاء سواء رجال أعمال أو رموز دولة لم يقدموا شيئاً لإنجاح ملف اليمن في إكسبو".
وأوضحت: "دولة الإمارات العربية المتحدة وإدارة إكسبو تحديداً قاما ببناء وتشييد ودعم ملف اليمن بإكسبو 2020".
رقمنة تراث اليمن بتكنولوجيا المستقبل عبر محاكاة معززة بأجواء تفاعلية
والتقت "العربية.نت" زوارا عرب وأجانب في أرجاء إكسبو دبي، وصفوا المحتوى الذي تضمنه جناح البلد الجاثمة بين ركام الحرب، بأنه بمثابة متحف فني مفتوح يوثق مكتنزات حضارة شاهقة وعميقة الجذور، تحتفي باستحضار إرث الماضي وموروثه ودمجه بتكنولوجيا المستقبل عبر محاكاة رقمية معززة بأجواء تفاعلية، تبرز إشعاعات جذب من خلال واجهتها الخارجية التي تبث صوراً حية عن جوهر اليمن الحقيقي.
وحسب مواقع إخبارية يمنية، رصدتها "العربية.نت"، فإن الجناح اليمني استطاع تجسير العلاقة بين الماضي والمستقبل من خلال التخلي الحميد عن التصور النمطي التقليدي الذي كثيراً ما أرهق كاهل المتابعين لأمر اليمن.
استكشاف حضارة غائبة لبلد حاضر فقط في نشرات الأخبار
وعلى الرغم من وجود أجنحة دول متألقة بحضورها التكنولوجي والرقمي وتفخر بابتكاراتها العابرة للمستقبل، إلا أن "أحفاد سبأ" كان مثيراً لاهتمام الآلاف من زوار المعرض العالمي، الذين لم يدخروا الفرصة في التعرف إلى الوجه الآخر من وجع البلد المنسي.
فهذا إريك غرونيس، القادم من أرياف إنجلترا، قال إنه لم يسمع ببلد اسمه اليمن إلا عن طريق نشرات الأخبار، وقال: "عندما شاهدت جناح اليمن تملكني فضول كبير بزيارة الجناح، وتفحص مقوماته والاستمتاع بتجاربه، فقررت التعمق في شأن اليمن، واستكشاف ما يتمتع به من جوانب حضارية ومعالم ثقافية وتاريخية".
دعوة للاقتداء بأنجح الممالك العربية في التاريخ
وفي السياق، أثنى ناشطون يمنيون على اختيار 'أحفاد سبأ" شعاراً للجناح اليمني، معتبرين بأن له "دلالة تاريخية"، فالملكة التي حكمت بلداً وصف بالسعيد، باتت تحكمه اليوم مصالح خارجية وأطراف متنازعة تتصارع من أجل تحقيق طموح النفوذ والسيطرة على ثنائية السلطة والثروة.
وقال الناشط أسعد البداي إن مشاركة اليمن في معرض يقصده العالم بالملايين، يمثل دعوة لأبناء اليمن للخروج من مناطق النزاع، والعودة إلى الالتفاف حول مشروع وطني متصل بالتاريخ والهوية، وتحرير عقلية العنف من براثن التخلف والجهل والرجعية، واستلهام القيم في توحيد الشمل ولمّ الصف، من فلسفة مملكة سبأ التي كانت من أهم الممالك العربية عبر التاريخ، وواحدة من أقوى وأضخم الاتحادات القبلية في اليمن القديم، يرجع تاريخ وجودها إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
شعار ضد الظلام يبشر بعودة جديدة تنتصر للعيش بأمان
فيما اعتبر الناشط عاطف ذيبان أن شعار الجناح يبشر بعودة السبئيون الجدد، الذين يعول عليهم في قراءة أحقاب تاريخهم، وكيف كانت مملكة أجدادهم السبئيون، أرض غناء تحيط بها جنتان، تغدق عليها النعم والعيش الهانئ والغبطة.
كانت بلاد رخاء يصونها الأمان، تشتهر بخضرتها وشجرها وزرعها وثمرها، فكل ما يحتاجه أهلها يجدونه من مأكل وزاد وماء وبهجة منظر واخضرار شاسع يزين القرى والأرياف. لكن مشهد اليمن اليوم أضحى أشبه بقبر مقفر يحيط به ظلام حالك يحاصره الفقر والحرب والمجاعة.
شواهد من عصور العلم والضوء والإبداع الفطري قهرت قوانين الطبيعة
آلاف الزائرين أشادوا بجواهر اليمن عبر جناحها بإكسبو 2020 بكونه جمع في تصميمه بين التاريخ والمعاصرة ليبدو تحفة فنية، ليعكس صورة حضارية ضد الخراب الذي لحق بنصف تراثه وآثاره التي التهمها القصف.
ويضيء الجناح على حقبة تنموية من عصور العلم والضوء والإبداع البشري.
وفي مقابل تلك الصورة الحضارية التي يبتهج بها يمنيو الخارج، ويفرح بها أبناء الثقافات الأخرى لقطع تأشيره سياحية في بلاد يحتدم فيها الصراع على أشده.
هناك صورة مأساوية مغايرة عن حقيقة البلاد المحاصرة وراء الحدود، البلاد الحزينة التي تقبع أسفل تصنيفات المنظمات، الأسوأ تغذية والأكثر نسبة فقر والأعلى معدلات بطالة والأفدح خطراً على الحياة. البلاد التي ثلثا أرباع جنودها أطفال تستخدمهم وقودا لمعارك لا يستوعبها وعيهم الصغير.
يمن اليوم أصبحت بؤرة للتصفية والإبادة للبشر والتاريخ والتراث
ووفق الكاتب سمير إبراهيم، الذي تحدث لـ"العربية.نت"، فإن اليمن على الرغم من اتساع جغرافيتها الثقافية والتاريخية، إلا أنها أصبحت في السنوات الأخيرة، بؤرة كبيرة للتصفية والإبادة للبشر والتاريخ والتراث الثقافي والمادي، فقد باتت جبهات القتال فيها أكثر من مسارحها، لا فن يطفو في وسائل إعلامها، ولا موسيقى تعلو فوق نيران القصف. لا وقت لدى شعبها المطفأ شغفاً وقحطاً وفقراً وقهراً، للغناء بعد أن أصبحت مدنها كلها مجلساً كبيراً للعزاء، لا فسحة للرسم لأن منظر الجثث والأشلاء يسد ذائقة الجمال، هناك فقط وصاية مفروضة على القطيع، وقمع قسري يحظر كل أصناف حريات التعبير".
مراكز التجنيد والتعبئة أكثر من المدارس والجامعات
ويضيف شاب تشكيلي لـ"العربية.نت"، تحفظ ذكره اسمه خشية على حياته: "تملك اليمن بنكين مركزيين، ولا يملك شعبها توفير ثمن قطعة الخبز، كل شيء معدم ومقطوع، بلد تمتلك آبار نفطية، ولا تستطيع أن توفر أسطوانات الغاز لسكانها، بلد موجودة فقط افتراضياً على الخريطة، لكنها في الواقع مقطوعة عما يجري خارج حدودها، لا تفرق بين صباحها ومساؤها سوى بالعتمة التي يغرق فيها السكان بلا أسلاك كهرباء ولا ثمن شموع أو رفاهية توصيل شبكة إنترنت".
وأضاف بالقول: "كل ما فيها يؤدي إلى البؤس، وكل طرقاتها تقود إلى الموت الجاهز والمعلب في عبوات مجانية متاحة للجميع، مراكز غسيل التجنيد والتعبئة أكثر من عدد المدارس والجامعات، بلد تضمحل ببطء، تتراجع إلى الوراء، فلم تعد تؤمن بالتعليم كمخرج للخلاص، بل تؤمن بالقتال ليس دفاعاً عن كرامة وطن بل عن سيادة شخص.. تضحيات رخيصة بأرواح ثمنها بخس، تصعد إلى السماء، بلا شهادة وفاة، وهي تعلم أن دمائهم ستكون حبراً للتوقيع على صفقة اتفاق بين طرفي النزاع".
الوعي بأهمية العلم والتعليم رهان اليمنيين لاستعادة نهضتهم الحضارية
ويرى د. مؤيد العسلي أن حضارة الأمس التي يعيش على وقعها جيل اليوم بكل ما حفلت به من تعليم وفكر وابتكار وعلوم ومعرفة سبقت عصرها، "حديث عاطفي ذو شجون لا يسمن ولا يغني عن جوع، فما هو موجود على الأرض اليوم هو الثابت والمؤكد، ولابد من الاعتراف أننا من الشعوب التي توشك أن تندثر، فالعلم هو رهان النهوض والتمسك به مقياس تطور وتشكل حضارات جديدة، وما نشهده من تراجع لا يمت بصلة إلى عقول أجدادنا الأوائل، فنحن نشاهد الاحتضار الأخير للتعليم البائد في اليمن، في ظل اتساع رقعة الأمية التي تكاد تشمل نصف السكان، والأمية اليوم لا تكمن في القراءة بل في امتلاك وسائل المعرفة، فمن لا يمتلك أدوات الرقمنة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، يصنف في عداد الأمية العصرية، فكيف يمكن أن نعيد دفة الحضارة، وندير مؤشر النهوض التعليمي مجدداً، وأكثر من 3 ملايين من أطفالنا خارج المدرسة، وأكثر من مليونا طفل يتلقون التعبئة في مراكز الشحن الطائفي ونصفهم موزعين في متاريس المعارك".
سفراء التراث الغنائي: هنا اليمن أرض البهجة والسلام
تحاول د. مناهل ثابت عبر رؤيتها في تصميم الجناح، استعاده وهج الهندسة المعمارية القديمة التي تجسدت عبر التاريخ من خلال معالم ثقافية وتراثية، فعلى الرغم من تأثير الحرب فيها، إلا أن الرهان يكمن بالوعي الثقافي في استعادة النهوض الحضاري ونفض غبار الدمار والتحليق مجدداً كطائر الفينيق.
فلا تزال إبداعات المهندسين اليمنيين شاهدة على عصور غابرة، تبرز عبقريتهم في بناء المعابد والقصور مثل قصر غمدان ومعبد "إله القمر" وكذلك براعتهم الفطرية في تشييد السدود مثل سد مأرب العظيم.
ومن جانب آخر يساهم الفنانين في صناعة نموذج سلام؛ ليقدموا رسائل دعم عبر أصواتهم وإبداعهم كسفراء للجمال والثقافة والتراث الغنائي اليمني، فمنهم الفنانة أروى التي غنت مع الفنان حسين محب، أغنيات تراثية يمنية، واجتمعت أروى أيضاً لأول مرة مع الفنان الإسباني العالمي ميغيل بوفيدا في "دويتو" غنائي باللغة الإسبانية ليقدموا خلال حفلهم رسالة بين طياتها "هنا اليمن أرض البهجة والسلام".
أقدم قهوة على وجه الأرض تحتفي بموطن البن المحاصر
وللقهوة العربية حضوراً بصفتها تمثل رائحة الأرض وموطن البن الأصلي في هذا الكوكب، حسب كثير من الباحثين الذين يعتبرون أقدم قهوة يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر، قدمها سلطان اليمن سليمان باشا، وأصبحت قهوة "موكا" اليوم مرهونة في ميناء المخا المحاصر بعد أن كانت تجوب العالم وتوصل عبق اليمن بأرضه وطيبة أهله الى مختلف أجناس شعوب وأعراقهم.
"الطربي" آلة يمنية النشأة تصدر موسيقى تنتصر على صوت الحرب
وفي أركان الجناح، تتجلى أبرز مظاهر التراث الثقافي اليمني، تبرز آلة العود والجنبية تمثلان تراث محبة وسلام، كما حضرت في الحفل الغنائي الذي أحياه الفنانان اليمنيان أروى وحسين محب. آلة الطربي أو "القنبوس" بوصفها أداة موسيقية قديمة الأزل، عبارة عن عود قصير الزند، نشأ في اليمن ثم انتشر في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، و"الطربي" يعبر عن اخضرار الروح اليمنية، وتوهجها الوجداني الباعث للحب، وانحيازها الأصيل الى الطرب الذي يدخل في مواجهة مع الحرب، ووحده الغناء ينتصر دائماً على صوت القصف.
ولم تكن الجنبية التي تمثل ركناً أساسياً من عناصر الزي الشعبي اليمني، إلا زينة رجولة وبهجة أناقة لا ترفع أبدا من غمدها إلا لأداء رقصة تسمى "البرع" في الأعراس والمناسبات، يرافقها قرع طبول، ليست طبول حرب بالطبع، بل طبول حب وغناء وألفة تجمع قلوب اليمنين في لفيف واحد، بعد أن فرقتهم اليوم أصوات الحرب وفجائع القصف وجعلتهم شتاتاً في جبهات قتال ومأزق فقر وقهر، ومتاريس ثأر وانتقام للدم بالدم.
101 موقع ومعلم تاريخي يمني تضرر جراء نيران الحروب
وكانت المديرة العامّة لـ"اليونسكو" إيرينا بوكوفا وصفت التراث الثقافيّ اليمنيّ بقولها: "إنّ تراث اليمن فريد من نوعه، فهو يعكس قرون تبادل الفكر والحوار الإسلاميّ الثريّ".
وبعد ضمّها أربعة مواقع يمنية على لائحة التراث العالميّ، هي: جزيرة سقطرى ومدن صنعاء القديمة، شبام حضرموت، وزبيد القديمة، وجهت منظمة اليونسكو، نداء لأطراف الصراع باليمن، باحترام اتفاقية عام 1954 بشأن حماية المؤسسات الثقافية في حالة الحروب، إلا أن الآثار اليمنية لم تنجو من أضرار الحرب، إذ تمّت إصابة وتدمير 101 موقع ومعلم أثريّ، تنوعت الأضرار بين تهريب وحفر وبناء على أجزاءها ونهب وسطو منظم.
تحذير أممي ضد تجريف الآثار وتجريم النهب المنظم للممتلكات الثقافية
وحسب رويترز، تعاني منازل صنعاء القديمة التراثية والتي يرجع تاريخها لما قبل القرن الحادي عشر من تداعيات الصراع والإهمال، وتعرضت مدينة عدن لعملية طمس وتشويه وإحراق للكنائس والمعابد، التي تمثل الموروث الدينيّ وأصبحت معظم آثار المدينة مدمرة وتحولت لساحات مواجهات، وتعرضت مدينة زبيد العريقة والأثرية ذات الأبنية الطينية والتي تحتضن خامس أقدم مسجد في العالم، للقصف الذي وصل إلى أبوابها.
كما أصيب سد مأرب رمز مملكة سبأ العظيمة المذكورة بالقرآن الكريم للأضرار جراء قصف بسبب تمركز اطراف النزاع بالقرب منه، كما تعرض مدينة براقش عاصمة دولة معين بمحافظة الجوف، جراء القصف كما هو حال كثير من المواقع التاريخية والمعالم في تعز وذمار والضالع وحجة وغيرها.
وحسب مقال نشرته مؤخراً صحيفة "واشنطن بوست" Washington Post، شهدت الحرب في اليمن نهباً للتراث وتهريب المقتنيات الثمينة إلى الخارج وبيعها مقابل شراء السلاح، محذراً من خطورة "تجريف التاريخ وانتهاكات أطراف النزاع للممتلكات الثقافية في اليمن".