حرب تتسع مجازرها لتلتهم أطفالاً ونساء يمنيين دون تفريق بين مقاتلين أو مدنيين أبرياء، ومجاعة تشتد فتكاً بالملايين، ترافقها أوبئة وأمراض تأكل عافية الكثيرين، فمن لم يفقد حياته في جحيم المعارك، يخسرها ببساطة في أروقة مستشفيات باتت تشبه مقابر مؤثثة، حسب توصيف كثيرين طفح بهم القهر بعدما فقدوا أشخاصاً عزيزين أمام أعينهم بسبب أخطاء طبية فادحة لا يمكن لطالب طب في المستوى الأول اقترافها، فما بالك بأطباء وجراحين متخصصين.. فأين تكمن المشكلة؟
كوارث طبية تحصد أرواح المرضى دون رقابة ولا عقوبة ولا محاكمات
"العربية نت" تفتح ملف الأخطاء الطبية في المستشفيات اليمنية، وترصد جرائم قتل مكتملة الأركان، لكن من دون رقابة ولا عقوبة ولا محاكمات بسبب عجز أسر الضحايا عن تكبد فواتير الإنفاق على المحامين من جهة، وعدم وجود قوانين صارمة وواضحة تضمن لهم الانتصار قضائياً لصالح قضاياهم.
قطاع صحي مدمر طبياً ومهنياً وإنسانياً في مختلف مشافي اليمن
وما يحدث من كوارث تكشف العبث بأرواح المرضى باسم الطب، وما تشهده منصات السوشيال ميديا من قصص مأساوية راح ضحيتها أطفال صغار من الجنسين، نتيجة هفوات جراحية بالجملة، وعمليات تخدير بدائية وفاشلة، إلى جانب سوء التشخيص الأعمى الذي يقود بعض الحالات إلى غرف العناية الفائقة، وكثيراً إلى ثلاجة الجثث.. جرائم تتكبدها أرواح بريئة تضاف إلى أرصدة الخسائر التي تحصدها الحروب كل يوم، يقترفها أصحاب معاطف بيضاء، تحولت صفتهم من ملائكة رحمة إلى "سرّاق" حياة، وأصبحت مهنتهم في الواقع جزّاري لحوم آدمية في البلد اليمني المخطوف الذي يتحكم بمصيره وعافيته سماسرة الدم وعتاولة الفساد وتجار الموت الأسود في جبهات القطاع الصحي المدمر طبياً ومهنياً وإنسانياً في مختلف مستشفيات المحافظات اليمنية.
رحلة العلاج تبدأ بتوقيع أوراق إخلاء المسؤولية ثم تمر بالتشخيص الخاطئ وقد تنتهي بالوفاة
إلى ذلك، عبر مواطنون يمنيون على منصات السوشيال ميديا عن مآسيهم بفقدان أعزاء وأقارب لهم بسبب أخطاء طبية راح ضحيتها أطفال وشباب في عمر الورود، يؤكدون في إفاداتهم لـ"العربية نت" أن أهالي المريض فور دخولهم إلى أي مستشفى لإجراء عملية جراحية له، يطلب منهم توقيع أوراق تعفي المستشفى من أي مسؤولية جنائية تطاله، مشيرين إلى أن رحلة العلاج تبدأ في الغالب بتشخيص خاطئ لحالة المريض، وهذا أمر طبيعي يدركه الكثيرون لا تستثنى منه المستشفيات الحكومية من الخاصة كلهم على نفس الأداء الطبي الضعيف في مختلف المدن اليمنية، ما يدفع البعض إلى تكبد معاناة الانتقال من طبيب إلى آخر، وأحياناً تناول وصفات علاجية قد تزيد الحالة سوءاً، ما يترتب عنها مضاعفات وخيمة.
بين مخلبي الفقر والحرب.. ملايين اليمنيين تحت رحمة الأخطاء الطبية
وفي بعض الحالات يوصي الطبيب المريض بالخضوع لعملية جراحية فورية لا يكون في الأساس بحاجة إلى إجرائها، فيتفاجأ بعدها بضرورة تصحيحها بعملية أخرى نتيجة أخطاء سابقة، ويزداد الأمر سوءاً عندما ينسى طبيب أو خبير تخدير مشرطاً أو شاشاً أو أدوات حادة ملوثة داخل أحشاء المريض، ليطلب من أهله الموافقة على إجراء عملية طارئة لاستخراج تلك الأدوات قبل أن تسبب هلاكه. تلك نماذج من شكاوى ومناشدات وصرخات تظلم موثقة على منصات التواصل الاجتماعي.
مخاطر كثيرة يعيشها المرضى اليمنيون في بلد مهترئ اقتصادياً وأمنياً وممزق صحياً، يعاني الأمرين، يترنح بين مخلبي الفقر والحرب، يعيش ملايين اليمنيين تحت رحمة الأمراض والأوبئة لتكتمل المأساة بالأخطاء الطبية التي توزع عليهم الوجع والفاجعة لتجرعهم طعم الموت بكافة ألوانه.
طالب مدرسة يدخل غرفة العمليات بابتسامة فيخرج منها بإعاقة
فهذه قصة راح ضحيتها طالب مدرسة يدعى أسامة جغمان، غصت بقصته معظم مواقع التواصل في اليمن، حيث دخل أسامة برفقة أسرته لعمل فحوصات في مركز صنعاء التخصصي، فقرر له الطبيب إجراء عملية إزالة لحمية، وبعد تطمينات الدكتور بسهولة العملية ونسبة نجاحها الكبير، أبدى أسامة وأهله ارتياحهم، لدرجة أن أسامة وثق لحظة دخوله غرفة العمليات بابتسامة حملت الكثير من الإيمان والتفاؤل، كانت تلك الابتسامة هي الاحتجاج الوحيد والصامت ضد تلك المأساة التي أوجعت شبابه ودمرت نفسيته وفجعت أهله، حيث خرج من العملية بإعاقة نتيجة نقص الأكسجين وتلف لخلايا في الدماغ أصابت أسامة بالشلل، ما أدى إلى فقدانه الوعي ودخوله في غيبوبة، اضطر أهله لنقله من مركز صنعاء إلى المستشفى الاستشاري ومن ثم تطلب الأمر نقله إلى مستشفى السعودي الألماني من أجل العناية المركزة.
لائحة شكاوى رفعها ناشطون ضد أطباء يمنيين مشكوك بمهنيتهم
ووفق تعليقات الكثيرين ممن تعاطفوا مع حالته، اعتبروا أن هذا ليس خطأ طبياً بل إنه جريمة مكتملة الأركان، خصوصا أن الشاب لايزال طالب مدرسة ومتمتعا بكامل صحته ليدخل بهذا الخطأ في كابوس الإعاقة والشلل، مشيرين إلى أن عملية إزالة لحمية من الأنف مع تقدم الطب الحديث، تعد من أبسط وأسهل العمليات الجراحية.
بموازاة ذلك، يرفع متضررون شكاوى إلى الجهات المعنية للرقابة والمحاسبة على وضع المستشفيات في البلاد، أخطاء طبية فادحة تمر دون رقيبٍ أو حسيب، ومعاقبة الأطباء العابثين والمتورطين بتلك الجرائم الطبية، هؤلاء الأطباء الذين بات الكثيرون يشكك في مهنيتهم ويعتقدون أنهم لم يحصلوا على مؤهلاتهم بالعلم والضمير، بل بالغش والتزوير والرشوة.
كسور دفعت طبيب الأشعة لإجراء عمل تخدير لمريض توفي على الفور بعد حقنة بالمخدر
فمن طبيب حوّل ابتسامة أسامة إلى إعاقة مستدامة، هنالك الكثير من الجرائم التي يذهب ضحيتها كثير من اليمنيين، خصوصاً في عمليات إزالة اللحمية الزائدة بالأنف، والهدف من إجراء مثل هذه العمليات فقط الربح المادي بأي وسيلة ممكنة حتى ولو كانت على حساب أرواح المرضى. ففي مدينة إب وسط اليمن، شاب آخر يدعى محمد عبده الزمر، أصيب بكسور في حادث مروري، وتعرض لخطأ طبي في أحد المراكز الطبية بالمدينة، أدى إلى وفاته على الفور، إثر جرعة تخدير حقن بها أثناء خضوعه لتصوير مقطعي لكسور دفع طبيب الأشعة لطلب عمل تخدير للمريض، إلاّ أنه توفي على الفور بعد حقنة بالمخدر.
وخلال الأشهر الفائتة زادت أعداد ضحايا الأخطاء الطبية بمحافظة إب، حيث تم تسجيل أكثر من 10 ضحايا منذ مطلع العام الجاري، في ظل غياب الرقابة من الجهات المعنية بمكتب الصحة والسكان بالمحافظة الخاضعة لسيطرة المليشيات الحوثية.
أوراق تجبر الأسر على قبول أي خطأ طبي وقوانين تحتمي بها المستشفيات للتهرب من المسؤولية
أطباء مهزوزون ومستشفيات بلا كفاءة، هكذا يصف بلال السكني، ناشط يمني، مشيراً إلى معاناة المريض وأهله عند احتياجهم لإجراء عملية جراحية حيث يتفاجأوا بضرورة توقيع ثلاث أوراق: الورقة الأولى يتبرأ الطبيب في حالة حدوث أي خطأ طبي بما فيها نسيان مقصات العملية داخل جسم المريض أو استئصال البنكرياس بدلاً عن المرارة أو التسبب في إعاقة تقضي على مستقبل المريض! الورقة الثانية تخص طبيب التخدير الذي يخلي مسؤوليته عن أي مضاعفات للتخدير بما فيها الغيبوبة أو الوفاة، أما الورقة الثالثة خاصة بالمستشفى تنص على أن المستشفى لا يتحمل أي تبعات في حالة حدوث خطأ طبي في العملية.
وطالب ناشطون مسؤولي الدولة ومؤسسات القانون اليمني أن يغيروا هذا البنود التي تحتمي تحتها كل المستشفيات للتهرب من المسؤولية. فيما ذهب آخرون إلى وصف هؤلاء الأطباء بأنهم تجار انتهازيون ليس لديهم الثقة بأنفسهم وقدراتهم على معالجة المريض بشكل صحيح بل يعاملونه وكأنه فأر تجارب بمقابل مادي مجحف.
142 هجوما منذ 6 سنوات يخرج 50% من مستشفيات اليمن عن الخدمة
ووفق الأمم المتحدة، فإن نحو 142 هجوماً طال أبنية مستشفيات ومرافق طبية في اليمن، منذ مطلع العام 2015، وتعمل فقط أقل من 50 بالمئة من المرافق في كافة البلاد، وهو ما أدى إلى تدني الخدمة في ظل نقص الكثير من الأجهزة والمعدات والتكنولوجيا المواكبة للتطورات الطبية في العالم.
عالمياً يفقد 5 أشخاص حياتهم بسبب أخطاء طبية بحسب إفادة منظمة الصحة العالمية، وفي البلدان النامية يموت سنويا أكثر من مليون ونصف المليون شخص بسبب معالجات خاطئة، أما في اليمن فالأرقام تكاد محجوبة.. لكن الكوارث الطبية تشير إلى أعداد مخيفة لا يمكن رصدها وهو ما يتطلب وقفة مجتمعية وإنسانية وصحوة يمنية جامعة لتفادي هذه الأخطاء التي تتجاوز قتلى الحروب والمعارك والأوبئة الفتاكة مثل كوفيد 19.
استئصال غدة في الرقبة أدى إلى تمزق الأحبال الصوتية
مع احتدام وتيرة الصراع في اليمن وسط حروب دامية وأزمة إنسانية أدت إلى تضاعف معدلات العنف والبطالة وارتفاع نسبة الفقر والنزوح، لتكمل الأمراض والأوبئة والحوادث حصدها للأرواح والضحايا فضلاً عن جرحى المعارك وضحايا الجبهات. ولتتواصل دراما الفجائع، التي يتكبدها المرضى ممن لا حول لهم ولا قوة، ولا يملكون سوى الشكوى دون إنصاف أو حتى تعاطف معهم، ففي أحد مستشفيات مدينة عدن جنوب اليمن، فقدت نازك محسن بسباس (18 عاماً) صوتها نتيجة خطأ طبي عقب استئصال غدة في رقبتها ما أدى إلى تمزق أحبالها الصوتية.
طفل يفقد بصره بسبب خطأ طبي ولا يزال محتجزاً لدفع تكاليف العملية
وفي مدينة ذمار جنوب العاصمة صنعاء، تسبب خطأ طبي بفقدان الطفل إسماعيل محمد النجار، بصره وهو الذي لم يتجاوز عامه الثاني، وذلك بعد إزالة كيس دهني من رأسه، حيث تم إسعافه في بداية الأمر إلى عيادة تخصصية في المنطقة لكن العيادة قامت بتحويله إلى مستشفى أهلي في محافظة ذمار تسبب في حدوث خطأ طبي أفقد الطفل نظره. والأدهى من ذلك أن الطفل مازال محتجزاً في المستشفى للمطالبة ببقية تكاليف العملية الفاشلة والتي أفقدت الطفل بصره.
طفلان يفارقان الحياة أحدهما بسبب الإهمال والآخر نتيجة زيادة جرعة التخدير
وفي العاصمة صنعاء، طفل كان يعاني الحمى فقط، تم إسعافه بعد منتصف الليل إلى المستشفى السعودي الألماني، فطلب من أهله شراء مهدئ من الصيدلية في وقت كانت كل الصيدليات مغلقة، في حين كانوا لا يملكون ثمنه، بينما كان الطفل يتلوى ألماً من الوجع، ليفارق الحياة بعدها. وفي العاصمة نفسها، طفل يدعى عمر مختار القيفي، أجريت له عملية استئصال اللوزتين، وأدت زيادة نسبة المخدر إلى إنهاء حياته من دون رأفة أو رقابة.
من عملية فتاق إلى شق واضح في رقبته .. جرعة تخدير تنهي حياة طفل على الفور
وفي مدينة تعز جنوب غربي اليمن، تفاجأت أسرة الطفل راكان عبده الخطابي بعد إسعافه إلى المستشفى، لإجراء عملية فتاق، فتعرض لخطأ طبي فادح، حيث قام الأطباء بإجراء شق في رقبته لتفادي نوبة ضيق تنفس حادة تعرض لها على أمل إنقاذه عبر التنفس الصناعي، لكنه سرعان ما خرج الأطباء ليبلغوا أسرته بمفارقته الحياة. وتبين أن الطفل تعرض لتخدير كبير أدى إلى وفاته، هكذا يفقد أطفال اليمن أرواحهم بسبب أخطاء وجهل طبي كبير، من دون أدنى رحمة من أطباء يحملون صفة ملائكة الرحمة.
في السياق، أطلق يمنيون صرخات ضد أطباء الربح السريع مطالبين بإعادة النظر في تخصصاتهم ومؤهلاتهم وإصلاحات جذرية للقطاع الصحي الذي أدى إلى حصد كثير من الضحايا بسبب الجهل الطبي والمهني والاستخفاف بأوجاع والآم المرضى. وهنا يصرخ ناشط في وجه أطباء وفنييّ التخدير بالتحديد، قائلاً: "فقط في اليمن، يُدرس تخصص التخدير كدبلوم في الجامعات والمعاهد اليمنية مدة 3 سنوات، ويعامل فني التخدير معاملة طبيب تخدير متخصص، بينما في العالم أجمع يُدرس التخدير كتخصص بعد بكالوريوس الطب ويُعد من أصعب التخصصات الطبية، وتتراوح مدة دراسته من 3 إلى 6 سنوات على حسب الدولة".
إلى أين يتجه الطب في اليمن.. بعض المستشفيات تصنف حالات الوفيات بأنها قضاء وقدر
يرى شخص أن الكارثة تكمن في فتح تدريس الطب في الجامعات الخاصة باليمن، بالرغم أن دولاً كالأردن على سبيل المثال يمنع تدريس الطب في الجامعات الخاصة وحتى الحكومية ويقتصر فقط في جامعتين رسميتين.. ويكمل: "إلى أين يتجه الطب في اليمن".
لا يكاد يمر شهر حتى تنتشر حادثة طبية جديدة ضحيتها في الغالب شباب أو أطفال، والخطأ هو نفسه أداة الجريمة الوحيدة، والقاتل يرتدي معطفاً أبيض، وباتت بعض المستشفيات اليمنية تصنف حالات الوفيات بأنها قضاء وقدر، وليست نتيجة أخطاء بشرية.
فبدلاً من هذا التبرير اللاإنساني، يفترض على الطبيب طالما ثبت وقوعه في خطأ أثناء أو بعد العملية، الاعتراف به هو وتحمل المسؤولية، وأبسطها تكفل تكاليف علاج المريض حتى لو يتم نقله للعلاج في الخارج على نفقة المستشفى نفسه.