ابتكر باحث مصري، حديثًا، مجهراً ضوئيًا عالي الدقة والوضوح يمكنه للمرة الأولى من رؤية ألياف الحمض النووي داخل الخلايا السرطانية البشرية الحية بالكامل وبدقة النانومتر ولمدة طويلة؛ وهو ما يمثل نقلة في فهم مرض السرطان وعلاجه مستقبلًا.
وقال المبتكر الدكتور هيثم أحمد شعبان، لمرصد المستقبل، إن هذا «المجهر الجديد هو دمج لمجهر ضوئي؛ فائق الدقة، مع إحدى تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة»، موضحاً أنه «في السابق، كان يُقتصر النظر على تصوير الخلايا الميتة، وذلك يعوق مراقبة التفاعلات الجينية ومشاهدة حركتها، ويصعّب مشاهدة حركة الحمض النووي في الخلايا البشرية.»
لأول مرة
وكشف الدكتور هيثم على أن «هذا الابتكار الجديد تغلب على الصعوبات التقنية لمشاهدة حركة الجينوم في أدق تفاصيله، وأضاف بُعد الزمن -لأول مرة- في تصوير الجينوم بالدقة النانوميترية»، موضحًا «قمنا باستخدام هذا المجهر لدراسة التفاعل الجيني في الخلايا البشرية السرطانية، وتمكنا باستخدامه -في سابقة هي الأولى من نوعها- من مشاهدة التفاعلات الجينية على مستوى ألياف الحمض النووي واكتساب الخصائص الديناميكية للجينوم بجانب بنيته، والتي يمكن أن تستخدم كبصمة فيزيائية لتحديد الخلايا السرطانية ومضاهاتها بالخلايا السليمة. أيضًا تمت دراسة التفاعل الديناميكي للجينات مع إنزيمات النسخ، وتعد هذه خطوة أولية مهمة لدراسة كيفية تحول الخلايا السليمة الى سرطانية.»
امتداد للمجهر الفلوري فائق الدقة
وعن مدى الاستفادة من الابتكارات السابقة المشابهة في العالم، قال الدكتور هيثم إن «هذا المجهر يعتبر امتدادًا للمجهر الفلوري فائق الدقة الذي يتيح التصوير الحيوي في مقياس النانوميتر، والحائز على جائزة نوبل للعام 2014، وعلى الرغم من ذلك فإن مخترعيه لم يتمكنوا من تطبيقه في مشاهدة الجينوم في الخلايا الحية. يعد هذا المجهر امتدادًا لهذا المجهر فائق الدقة، وتطويرًا له بدمجه مع طرق الذكاء الاصطناعي الحديثة للتغلب على عوائقه السابقة، وهو أيضًا تطوير لتمييز الوحدات الأساسية لتركيب الجينوم ومشاهدتها (الوحدة الأساسية هي النيوكليوسوم) باستخدام إحدى طرق التعديل الجيني».
تقنيات الابتكار
وقال الدكتور هيثم إن «المجهر فائق الدقة، عادة، ما يحتاج الى 40 ألف صورة لتكوين صورة واحدة فائقة الوضوح لمشاهده الياف الحمض النووي، وهذا كان العائق الأساسي لمراقبة تحرك الجزيئات في الخلايا الحية. التقنية الجديدة المقترحة تستخدم احدى تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تتيح استخدام 12 صورة فقط لتكوين الصورة فائقة الوضوح المنشودة. هذه التقنية تسمى شبكة عصبونية التفافية، وبعد القيام بتدريبها لمرات عدة تستطيع توقع مواقع الجزئيات بدقة بالغة في وقت قياسي يبلغ كسور من الثانية.»
هدف الابتكار
أوضح الدكتور هيثم أن «الغرض هو الحصول على أداة مجهرية تستطيع التقاط التفاعلات في الخلايا الحية عند أقل مستوى في بنية الجينوم وتركيب الخلية، وأيضًا تصوير عملية فك شفرة عمل الجينوم، والتعرف على الاختلافات الجينية المسببة للأمراض، ورسم خرائط ديناميكية للجينوم في وضع الحركة، والكشف عن أي تشوهات جينية لفهم كيفية عمل الخلية في أدق تفاصيلها».
تطبيقات الابتكار المستقبلية
قال الدكتور هيثم إن «إضافة بعد الزمن (ميكروسكوب رباعي الأبعاد) يتيح التعامل مع الجينوم بشكل أكثر دقة ودراسة تتبعه الزمني، على سبيل المثال في الخلايا الجذعية الجنينية سوف يساعد المجهر في فهم كيفية توليد الخلية الواحدة لمئات الأنواع من الخلايا المختلفة والمعقدة عن طريق مراقبة تفاعل الجينوم وعوامل النسخ أثناء التطور، وتتكون هذه العملية من مجموعة من العمليات المشفرة في الجينوم التي تحدد هوية الخلية، وهذه التقنية ستسهل امكانية رؤية كيفية تكون الخلايا السليمة أثناء التطور الجنيني عند الوقت المناسب، ومعرفة عند أي زمن تحديدًا يحدث التمايز بين الخلايا المختلفة. هذه التقنية أيضًا تساعد على دراسة وفهم التقلبات الزمنية في التعبير الجيني والتفاعل بين عوامل النسخ على قرارات مصير الخلية.»
وأضاف إن «هذا سيفتح المجال على مصراعيه لفهم وتشخصي الخلايا السرطانية بدقة غير مسبوقة، وإمكانية التحكم في مصير الخلايا، وسيتيح هذا المجهر تطوير أجهزة أحدث وأدق للكشف عن الامراض وعن التشوهات الجينية في وقت مبكر وبتكلفة اقتصادية، وسيساهم في الكشف عن الخلل الجيني في الخلايا العصبية الذي يؤدي الى أمراض الشيخوخة وألزهايمر؛ وهذا سيتيح امكانية تكوين قاعدة بيانات شخصية للمرضي تحوي البصمات الوراثية للأشخاص ومعرفة تأثير الأدوية بشكل متباين من شخص الى شخص أي الطب الشخصي.»
الصعوبات
وقال الدكتور هيثم عن الصعوبات التي واجهت ابتكاره إن «هذا المجهر يعتمد على أحدث المعارف في تخصصات مختلفة مثل هندسة الضوء وعلوم الجينات وعلوم الخلية والذكاء الاصطناعي، مما يستلزم الإلمام بكثير من التقنيات الحديثة وأخر ما توصل إليه العلم في هذه التخصصات للإحاطة بكل التفاصيل المهمة والحيوية للمشروع؛ وهو ما زاد من صعوبة وجود جميع الخبرات العلمية والمرجعية في مكان واحد.»
وأضاف «أيضًا، واجهنا صعوبة توفر التمويل اللازم والامكانيات في مكان بحثي واحد؛ وهو ما دفعني إلى اتمام جزء من البحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي بجامعة تولوز الفرنسية مع استخدام حاسوب متطور للقيام بالحسابات المعقدة بجامعة ليون في فرنسا، والجزء الأخير في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية.»
فكرة الابتكار
وقال الدكتور هيثم إن «الفكرة نبعت من حاجة علم الخلية والجينوم إلى رصد وفهم كثير من الأسئلة المعقدة التي تستلزم دراسة الخلايا الحية بوضوح ودقة فائقة عند مقياس النانوميتر، والذي لم يكن متاحًا مسبقًا. بالإضافة إلى شغفي في دراسة التفاعل الجيني عند أصغر بنية حيوية في الخلايا الحية لفهم ماهية الخلية وبنيتها.»
طموح المبتكر
وبيّن الدكتور هيثم أنه «يطمح إلى تطوير المجهر ليكون خماسي الأبعاد (بإضافة بُعد التردد الموجي – اللون)؛ وهو ما سيتيح دراسة أدق للتفاعلات في الخلايا وتكوينها»، وأضاف إنه «من المهم، أيضًا، بناء المجهر في شكل مبسط ومعقول التكلفة بحيث يمكن استخدامه لتشخيص الأمراض السرطانية في المراحل المبكرة في الدول النامية والقرى… أرى أن الخطوة المقبلة هي العمل على تطوير وتعميق الدراسة لفهم كيفية فقد الخلية لهويتها والتحول الى خلية مريضة وهذا سيكون طفرة لعلاج العديد من الأمراض المستعصية.»
وتمنى «نشر نتائج هذه الأبحاث في كثير من الدول بهدف توصيل هذه المعرفة للطلاب الراغبين في دراسة هذا التخصص، وأنا لدي حلم توصيل وتبسيط نتائج هذه الأبحاث لطلبة الجامعات والمدارس أيضًا وترغيبهم وتشويقهم في العلوم وأهميتها لمستقبل مشرق».
مستقبل علم الجينوم
وقال الدكتور هيثم إن «علم الجينوم يمر بلحظة فارقة نتيجة التطور التقني الذي يساعد على الإجابة على السؤال المركزي لهذا المجال، وهو معرفة البنية الأساسية للكروموسومات والآلية التي يتم بها تشكلهم وكيفية تحديد والتحكم في وظيفتها. التطور السريع في هندسة الضوء وهندسة الخلايا والجينوم سوف يساعد بشكل سريع في تشخيص كثير من الأمراض التي يصعب الكشف عنها مبكرًا، وإتاحة فرص جديدة لوجود علاج لها، لذلك لابد من الاستثمار العلمي في تطوير وانتشار هذه التقنيات.»
ما الذي يحتاجه البحث العلمي في مصر لإجراء مثل هذه الدراسة؟
وقال الدكتور هيثم إن «التمويل هو العائق الاساسي في كل الدول النامي، ويمكن التغلب عليها عن طريق نشر ثقافة البحث العلمي وتشجيع دور الصناعة والمجتمع المدني في تمويل الأبحاث، والبحث العلمي في مصر يحتاج إلى تنظيم اكثر، فالمراكز والمعاهد البحثية في مصر لابد أن تكون لها رؤى وأهداف، بحيث يكون هناك عملية تنظيمية مرتبطة بأهداف التنمية في الدولة، ولا بد، أيضًا، من الاستثمار في مثل هذه الأبحاث المرتبطة بالعلوم الأساسية؛ التي ليست بالضرورة أن تكون تطبيقية، كما أنه لابد أن يكون هناك تواصل وتكامل بين الباحثين في جميع المجالات.»
وختم حديثه قائلاً إنه «يتمنى أن يكون قادرًا على نقل ابتكاره إلى وطنه مصر، وأتمنى أيضاً أن أساعد كل طالب محب لهذا المجال وأن أعطي له إضافة».
نبذة عن المبتكر
يعمل الدكتور هيثم شعبان، حاليًا، باحثًا في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان. وفي أوقات سابقة، عَمِل باحثًا ما بعد الدكتوراه في جامعة هارفارد الأمريكية العريقة، وباحثًا في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي بجامعة تولوز، وباحثًا زائر في جامعة أكسفورد البريطانية.
وحصل، في العام 2015، على دكتوراه مزدوجة في فيزياء البصريات والضوئيات من جامعة إيكس مرسيليا الفرنسية، ومن جامعة فلورنسا الإيطالية في تطوير المجاهر الضوئية فائقة الدقة؛ وهو ذات المجهر الذي مُنحَت له جائزة نوبل في الكيمياء العام 2014، ولكن بإضافة حساسية استقطاب الضوء لدراسة التوجه الجزيئي للجزء الواحد في الخلايا البشرية والهياكل الحيوي؛ الذي يعتبر من أهم التخصصات العلمية الحالية في تطو التقنية والعلوم.
وأشرف على رسالته للدكتوراه أساتذة متخصصين عملوا مع الأساتذة الحاصلين على جوائز نوبل المتخصصين في المجاهر الضوئية الفائقة، وحصل على الماجستير في الفيزياء الحيوية من جامعة الأزهر، وعمل قبل الدكتوراه مدرساً مساعداً في الجامعة الأمريكية في القاهرة، وباحثًا مساعد في المركز القومي للبحوث بالقاهرة.
وطور الدكتور هيثم، خلال دراسته للدكتوراه وأبحاث ما بعد الدكتوراه، العديد من المجاهر الضوئية فائقة الدقة والوضوح (وهو المصطلح الذي يجمع تقنيات كثيرة تسمح بالتقاط الصور بدقة أعلى من تلك التي يفرضها حد حيود الضوء) لدراسة الهياكل البيولوجية والبروتينات والجينوم (المادة الوراثية) في الخلايا البشرية بدقة النانومتر. ونشر كثير من الأبحاث في المجلات العلمية المرموقة ذات الصلة، وشارك في أكتر من 20 مؤتمر دولي في 12 دولة في أوروبا وأمريكا واليابان.
والدكتور هيثم عضو مؤسس للاتحاد الدولي للجينوم في أبعاده الأربعة، بتمويل من الاتحاد الأوروبي لمدة خمس سنوات لنشر والتعريف بهذا العلم الجديد وبناء شبكات وتعاون علمي بين الدول المشتركة.
جوائز
نال الدكتور هيثم، في العام 2019، جائزة أفضل بحث معروض في اجتماع الأمل الحادي عشر مع الحائزين على جائزة نوبل، والجائزة مقدمة من الجمعية اليابانية لتعزيز العلوم واللجنة المنظمة للاجتماع. وفي العام نفسه، تم اختياره لتمثيل مصر في اجتماع الأمل الحادي عشر في اليابان.
وفي العام 2019، نال جائزة برنامج تبادل البحوث للشباب من جامعة هارفارد لبدأ جسر بحثي بين جامعة هارفارد وجامعة واشنطن في سياتل، الولايات المتحدة الأمريكية. وفي العام 2019، نال، أيضاً، جائزة السفر الدولية للباحثين الشباب من خارج الولايات المتحدة الامريكية من الجمعية البيو فيزيائية لعرض نتائج الابحاث في الاجتماع السنوي للبيو فيزياء بسان فرانسيسكو، بالإضافة إلى جائزة العلماء الشباب من معهد السرطان بجنوب وشرق فرنسا في الأبحاث المتعلقة بمرض السرطان في العام 2017.
ونال، في العام 2018، منحة من جامعة أكسفورد البريطانية كباحث زائر في قسم الكيمياء الحيوية. ومنحة باحث شاب من جامعة سيراكيوز في ولاية نيويورك الأمريكية. ومنحة سفر من رابطة الجمعيات البيو فيزيائية الأوروبية لعرض أبحاثه في الجامعة الكاثوليكية في مدينة لوفين البلجيكية.
وحصل، في العام 2020، على تمويل لمشروعه البحثي في دراسة ديناميكيات الجينوم وعوامل النسخ في الخلايا الجنينية الجذعية من الاتحاد الأوروبي. وفي العام 2012، حصل على منحة من الاتحاد الأوروبي لدراسة الدكتوراه في علم البيوفوتونكس (استخدام الضوء لدراسة الخلايا).
The post باحث مصري يبتكر مجهرًا ضوئيًا يمكنه للمرة الأولى من رؤية ألياف الحمض النووي داخل خلايا البشر الحية appeared first on مرصد المستقبل.