بذكرى وفاة يونغ.. لهذا تكشف الأحلام أحداثاً قبل وقوعها

ستون عاماً مرت على وفاة عالم النفس، كارل يونغ، والذي يعدّ واحداً من كبار أعلام الفكر الغربي المعاصر، وترك آثاراً وصفت بالعميقة والمثيرة للجدل، في عالم الطب النفسي وعلم النفس التحليلي، إضافة إلى دوره في تكوين وتطوير علم النفس والعلاجات المرتبطة به، تطبيقياً ونظرياً، إلى جانب الأشهر عالمياً، في هذا المجال، سيغموند فرويد الذي جمعته معه التلمذة ثم الصداقة ثم افتراق المختلفين فكرياً، ليصبح كل واحد منهما، علماً في كشوفه ونظرياته.

وبعد حياة حافلة، بالمؤلفات وإثارة الجدل على أعلى المستويات الأكاديمية العالمية، أعلنت وفاة يونغ عن 85 عاماً، في السادس من شهر يونيو/ حزيران، عام 1961، والذي يصادف وقوعه، اليوم الأحد.

الأحلام تخبرنا بما سيحصل

ولد عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ، عام 1875، وما أن شبّ عن الطوق، حتى حلم بحلم صغير، كان توطئة، في ما بعد، لدخوله دهاليز علم النفس والارتكاز إلى عالم اللاشعور، بفهم الشخصية البشرية، وكان حلمه عبارة عن ولوج إلى داخل غرفة، فيها شجرة إنما مصنوعة من لحم ودم!

يولي يونغ للأحلام، أهمية قصوى، ليس فقط كمادة خام قابلة للدراسة والتحليل، كصور ورموز، بل أيضاً لما تحمله الأحلام من إمكانية الكشف عما يمكن أن يحدث في المستقبل، لكن على أساس أن أزمات الإنسان، لها تاريخ لا شعوري طويل، وفيما نعجز عن إدراك الأخطاء التي تحصل، أو التصرف حيالها، يقوم العقل الباطن بإمرار مجموعة متنوعة من الإشارات والصور، عبر الأحلام، لتحذّر الحالم، والتي قد يكون فيها استباق لتطور حدث معين، أو نتيجة له، أو مواجهة حتمية لم تكن متوقعة، يهرب منها صاحبها.

ولهذا، يؤكد رائد مدرسة علم النفس التحليلي، بأنه يمكن للأحلام، أحياناً، أن تعلن عن مواقف معينة، قبل أن تحدث بزمن طويل، معتبراً ذلك بأنه ليس من عالم المستحيلات أو الخرافات.

تأثر بما يحِبّ أن يؤثّر فيه!

وبحسب مختلف دراسات وتراجم عالم الطب النفسي السويسري، فإنه تأثر أولا، بكتب تضاعف العلاقة مع عالم الأرواح واللاشعور، مثل كتاب "فاوست" للألماني غوته، حيث تأثر في شكل خاص، بشخصية "مفستوفيليس" المروّعة، ليكون تأثره، تالياً، بالفيلسوف المتشائم، شوبنهاور، داعماً لذلك التوجه والغوص والإقرار بواقعية الشرّ والبؤس، إن في العالم الداخلي أو الخارجي.

في غضون ذلك، وإثر بروز ملامح شغفه بالبعد الروحي والرمزي للأحلام التي منحها إمكانية توقع حدث في المستقبل، وعالم اللاشعور، قرر يونغ دراسة الطب، ثم مارس تلك المهنة عام 1900، ثم ابتعد عنها، ليتفرغ لبحوثه في علم النفس.

أدت زوجته "إيما" التي أنجبت له خمسة أولاد، والتي اقترن بها عام 1902، دورا كبيرا في حياته، فإلى جانب تفرغه للأبحاث والتجارب ومراقبة الأحلام، كانت بمثابة الصديقة والممرضة وكذلك الحوارية التي يلقي عليها، بعضا من أفكاره، خاصة وأنه كان هو نفسه، موضوعاً لأبحاثه، فيسجل أحلامه، ويناقشها، ويدرسها، وإلى أي ظاهرة نفسية تحيل، خاصة في كتابه الأشهر في هذا المجال، والمعروف باسم "الكتاب الأحمر".

هذا فراقٌ بينهما

إلى ذلك، كان فرويد، الشخصية المحورية عالمياً، في عالم التحليل النفسي، وصاحب مدرسة أساسية تركت أثرها البالغ في مختلف أنحاء العالم. فكان يتواصل معه، عن طريق المراسلات، حتى عام 1907 الذي التقاه فيه، وتحدثا، معاً، وبدون انقطاع، مدة 13 ساعة، في شكل متواصل، أدت لانسحار يونغ بفرويد، بحسب تعليقاته على ذلك اللقاء، والتي عبّر في بعضها، بأن فرويد لا نظير له، إلا أن الافتراق كان مصير الرجلين، بعدما شقّ يونغ طريقه، باتجاه لا يناسب نظريات "المعلّم".

من جهة أخرى، لم يلمع نجم يونغ، في سماء علم النفس، بمثل ما حصل له، بين عامي 1911 و1912، حيث خطف الأضواء وصنع مكانة خاصة له، في هذا العالم المملوء بمنافسين لا يشق لهم غبار، كفرويد، عندما نشر نظريته التي عرفت في كتاب "تحولات الليبيدو ورموزه".

بعد مرحلة تحولات الليبيدو، بدأ عمليا، افتراق يونغ عن فرويد، فالأخير أساسه ما يعرف باللاّوعي الفردي المرتكز على الكبت، فيما أساس يونغ، النظرية الأشهر التي حفرت اسمه، اللاوعي الجَمعي، في قلب كل شخصية بشرية.

اللاشعور الجَمعي مقابل الفردي

وترتكز نظرية اللاوعي الجمعي، على مخزونات عميقة الغور للثقافة البشرية جمعاء، بكل ما فيها من رموز وأساطير وما ورائيات، توحّد كينونة الشخصية الإنسانية، إلى جانب اللاوعي الفردي الفرويدي، فإذا كانت فردية اللاوعي الناتجة من الخبرات الخاصة للإنسان، جزءا أصليا في تكوينه ووعيه ومداركه وأمراضه، فإن جمعية اللاوعي، تتِم هذه الشخصية وتزيد في إمكانية فهمها، ولهذا كانت أديان العالم وثقافاته وأساطيره ورموزه، هدفاً في دراسات يونغ، ذلك أن اللاشعور الجمعي، هو خبرات البشرية كافة ورموزها كافة، وليس الجنس، بصفة خاصة، كما أسّس فرويد واشتُهر بذلك.

ويرى يونغ، أن اللاوعي الجمعي الذي هو صور ورموز قادمة من التواريخ الأعمق للإنسان، ظاهرة مكتسبة بالتطور، ولا تزال موجودة عند كل شخص معاصر، وأن هذه المحددات، روحية الأصل، لا جنسية، فقط.

وتشير ترجمات العلَمين، فرويد ويونغ، إلى حدوث قطيعة لا رجعة فيها، بينهما، إثر هذا الخلاف الجذري، بين فردية أو جماعية اللاشعور، وأثر النظريتين في تطبيقات علم النفس وعلاج الأمراض وفهم الروح، من خلال عودة رموز الأساطير والموروثات الجمعية، بالأحلام، وليس فقط، من خلال فهم الشخصية على أنها نتاج كبت طفولي جنسي.

رحيل هادئ بعد كل هذا الصخب

وفي هذا السياق، فإن من أشهر مؤلفات يونغ، كتاب "الإنسان ورموزه" بعد تحولات الليبيدو، فيدرس فيه، جملة قضايا، منها الأحلام للكشف عن ما يسميه الجزء المجهول في النفس البشرية، والعقل الباطن، موقناً بأنه من الممكن للأحلام، أن تكشف عن أحداث، ستقع، قبل وقت طويل من وقوعها، وأن هذا ليس من قبيل المعجزات أو الإدراك المسبق، كما يقول، بل بصفة يسمّيها تحذيرية تستبق وقوع الفعل، إثر تراكم الخبرات وظهورها في الحلم.

وصدرت ليونغ كتب عديدة، معروفة لقراء العربية، كـ"التنقيب في أغوار النفس" و"جدلية الأنا واللاوعي" و"علم النفس التحليلي" وكتب أخرى عديدة، وأصاب شهرة واسعة وامتدّ تأثيره ليشمل قطاعات واسعة من علم النفس، وأصبح نداً حقيقياً، للمعلّم فرويد، بنظرية مقابل نظرية، فاتسع تأثيره ليشمل الثقافة الإنسانية نفسها، خاصة وأن لاوعيه الجمعي، تعني أساساً مشتركاً في الشعوب والثقافات والأديان كافة، وأن عدم إدراك هذه المشتركات الجمعية، ستؤدي إلى نقص فادح بفهم الإنسان واكتشاف حلول لمشاكله الروحية.

ورحل يونغ، بهدوء تام، بحسب ترجمته، واختار زجاجة من أفضل الخمور لديه، وشرب القليل منها، ليغمض عينيه إلى الأبد، في السادس من شهر حزيران/يونيو عام 1961، تاركاً وراءه صخباً وجدلاً ومصنفات، لا تزال أساسا متينا ونوعيا ولا غنى عنه، ليس في فهم التحليل النفسي، وحسب، بل بمفهوم الثقافة البشرية ومعنى الشخصية الإنسانية.

Original Article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: