بسبب وباء أباد عائلات بكاملها.. ثروات ذهبت لخزينة الدولة

ظلت الأوبئة وآثارها عنصر دراسات وكتب تاريخ، تم فيها تناول آثار الأوبئة والجوائح على مختلف المجالات، إلا أن القليل منها تطرّق لوضعية المواريث إذا مات المالكون جميعاً، بسبب الوباء، ولم يبق هناك من يرثهم.

وأشار مؤرخ متأخر، هو ابن شهبة، إلى ظاهرة زوال ورثة الملكيات، بسبب حصد الوباء لأرواح عائلات المالكين، واحدا بعد الآخر، فلم يبق من الذرية أحد، لا من قريب أو من بعيد.

وكانت المنطقة العربية، واحدة من المناطق العالمية التي تفشى فيها وباء الطاعون سنة 749 هجرية، الموافقة سنة 1348 للميلاد، والتي تعرف بسنة الوباء الأعظم، أو الطاعون الأعظم، والطاعون الأسود كما درج اسمه في القارة الأوروبية التي حصد منها أكثر من عشرين مليون شخص.

من جانبه، عكف مؤرخ عربي متأخر زمنياً، هو ابن قاضي شهبة، تقي الدين بن أبي بكر بن أحمد الأسدي الدمشقي (1377-1448) للميلاد، والذي ولد بعد ثلاثين عاماً، من الطاعون الأعظم، على جمع تفاصيل في تاريخه، تتعلق بأثر الوباء على الميراث، وكيف أن انتقال الملكيات من شخص إلى آخر كانت تتم في اليوم الواحد، عدة مرات، بسبب وفاة كل شخص تصل إليه الملكية.

"ربما أنتنت البلد!"

في السياق، توقّف ابن شهبة، مطولاً أمام سنة 749 هجرية والموافقة 1348م، وأفراد لها، تأريخا يوميا مطولا، أضاف فيه على من سبقوه، خاصة ابن كثير الدمشقي (701-774هـ) الذي سبق وتناول فداحة ما حصل في تلك السنة التي ذكر فيها في "البداية والنهاية" أن "الفناء في الناس كثير جدا، وربما أنتنت البلد" كما أوضح في تفاصيله عن تفشي الطاعون في دمشق.

وقال ابن شهبة في تاريخه، عن سنة 1348م: "في هذه السنة، كان الطاعون العظيم الذي عمّ المشارق والمغارب" وعن العدد الكبير للضحايا جراء الوباء، فيصف "لا يحصيهم إلا الذي خلقهم" متطرقا إلى بعض مظاهر ما تناهى إليه، من تفشي الطاعون في بعض بلدان القارة الأوروبية، وقال إن أهل قبرص، مات أكثرهم، أو ما يقارب ذلك، بحسب تحديده.

ثروات مات ورثتها جميعاً

إلى ذلك، يصل ابن شهبة، إلى دمشق، وما فعله طاعون سنة 1348م بها، وتأثير ذلك كله، على ميراث العائلات وانتقال ملكياتها، فيوضح أن الملكية تنتقل من الشخص إلى آخر، مع كل وفاة، بشكل طبيعي وبدون عوائق، إلا أنه ذكر تعاظم الوباء في البلاد إلى الدرجة التي تنتقل فيه الملكية، في يوم واحد فقط، عدة مرات، بسبب موت الورثة، واحدا بعد الآخر، وفي اليوم نفسه.

وكشف ابن شهبة في تاريخه، وإليه يعود متشوقو العصر الوسيط، أوروبيا، أو الفترة المملوكية، عربيا وإسلامياً، أنه عثر على مخطوطات، كتب فيها، أن الشخص كان يموت، في دمشق وريفها، ثم تموت بقية أهله وأقاربه، تباعاً.

وفي سياق كلامه عن الميراث الذي تركته بعض العائلات، ولم يعد له من ورثة، بسبب فناء الجميع، يكشف ابن شهبة، أنه والحالة هذه، تصبح التركة التي مات جميع ورثتها الشرعيين، في عهدة "بيت مال" المسلمين، ذلك أنهم قضوا جميعا، وواحدا بعد الآخر: "وكان الميراث ينتقل، في اليوم الواحد، مراتٍ، من واحد إلى واحد، إلى أن ينتقل إلى بيت المال" وهي أسرع عملية انتقال ملكية، في تاريخ العرب المدوّن، حيث وبحسب ابن شهبة، انتقلت الملكيات عدة مرات في اليوم الواحد، بعد وفاة الورثة، في ذات اليوم، وواحداً بعد الآخر، حتى فنت العائلات، فصار من حق "الدولة" أن تنقل ثرواتهم، إلى بيت المال، وهو ما يوازي الآن، خزينة الدولة، أو وزارة المالية.

حرصاً على نفسية المطعون

وكان ابن كثير الدمشقي قد سبق ابن شهبة، في الإشارة إلى فناء أسر كاملة، بقوله عن الطاعون إنه "ما دخل في أهل بيت، لا يخرج منه حتى يموت أكثرهم" إلا أنه لم يتطرق إلى مسألة انتقال الميراث، أخيراً، إلى بيت المال، بسبب فناء جميع الورثة الشرعيين، بالوباء.

ومن الجدير بالذكر، أن بعض قادة المسلمين، أصدر أوامر، بمنع رفع الأصوات بالجنائز التي تطوف بجثامين من ماتوا مطعونين. وفسّر ابن شهبة تلك الأوامر، بأنها في صالح المطعونين الذين لا يزالون على قيد الحياة.
وكان بعض الناس يدخلون أبواب دمشق، مهللين في جنازة موتاهم المطعونين، فبدأ صوتهم يعلو "فانزعج نائب السلطنة" كما يقول ابن شهبة، فخرج النائب إليهم، وعاقبهم وقيّد حركتهم، ثم "عفا عنهم" في وقت لاحق.

ويكشف ابن شهبة، أن السبب في انزعاج "نائب السلطنة" من أصوات التهليل على جنائز المتوفين بالطاعون، هو أن "المطعون إذا سمع هذا الصوت، انقطع قلبه وأيقن الهلاك" أي أن التهليل على جنائز موتى الطاعون، قد يوقع الرعب في قلوب المصابين به، ويزيد في يأسهم وتراجع مقاومتهم الروحية.

في السياق نفسه، يضع ابن شهبة، تفسيرا آخر، لانزعاج النائب، من التهليل على جنائز قتلى الوباء، وهو احتمال أن يكون للنائب، "من يعزّ عليه وهو مطعون" فلمّا سمع "هذا الصوت، أيقن بالعَدَم. فهذا هو السبب في غضب النائب" بحسب تاريخ ابن شهبة.

ومن الجدير بالذكر، أن وباء سنة 1348م، سبقه أوبئة عديدة تطرق إليها الإخباريون، خاصة وباء دمشق، سنة 1258م، وهو الوباء الذي قيل إنه أدى لنقص هائل بعدد مغسّلي الموتى، لكثرة الضحايا، ويليه وباء سنة 1294 في مصر، وأدى لوفيات بأعداد هائلة، ووصلت نحواً من 300 ألف قتيل، بحسب مصادر تاريخية عديدة.

Original Article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: