أثناء الحقبة الستالينية التي أحكم خلالها جوزيف ستالين قبضته على الاتحاد السوفيتي لحين وفاته عام 1953، تعرض العديد من الأدباء والشعراء السوفيت للمضايقة والقمع. فبينما وجد كثير منهم أنفسهم على منصات الإعدام، أرسل العديد من الأدباء والشعراء نحو معسكرات العمل القسري بالمناطق النائية من البلاد حيث آمن ستالين حينها بإمكانية إعادة دمجهم وتأهيلهم، حسب قيم الاتحاد السوفيتي، عن طريق العمل.
وعلى الرغم من رحيل ستالين عام 1953، تواصلت حملة المضايقة ضد الأدباء والشعراء السوفيت. ومن ضمن هؤلاء يذكر التاريخ الشاعر والكاتب الشهير بوريس باسترناك (Boris Pasternak) الذي تحوّل لأكثر شخصية مكروهة بالاتحاد السوفيتي عقب فوزه بجائزة نوبل للآداب.
بداية باسترناك
إلى ذلك، ولد بوريس باسترناك يوم 10 شباط/فبراير 1890 بموسكو لعائلة يهودية ثرية اختصت بمجال الفنون حيث كان والده رساما مشهورا عرف بليونيد باسترناك (Leonid Pasternak) بينما حققت والدته روزاليا كوفمان (Rosalia Kaufman) شهرة كبيرة بأوديسا بفضل موهبتها في العزف على البيانو.
مطلع القرن العشرين، التحق بوريس باسترناك بالمدرسة قبل أن يباشر بتلقي دورس بالموسيقى عام 1903. وبعد انتقاله مع عائلته لوهلة نحو برلين أين تابع بشغف موسيقى ريتشارد فاغنر، عاد باسترناك لموسكو مجددا وحصل على درجة الباكالوريا قبل أن يتجه عام 1908 للدراسة بمجال الحقوق بجامعة موسكو. وفي الأثناء، نشر هذا الأديب الروسي أول أعماله الشعرية التي حققت نجاحا متواضعا.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، عمل باسترناك بأحد المصانع الكيميائية بالأورال. وهنالك، حصل الأخير على الإلهام لكتابة عمله الأدبي الشهير الذي حمل عنوان الدكتور جيفاغو.
الكتابة عن ماضي روسيا
خلال فترة الثلاثينيات، تحول باسترناك لشخصية مريبة بالنسبة للنظام الستاليني الذي اتهمه بالكتابة عن ماضي روسيا بدل الحديث عن الاتحاد السوفيتي بالفترة الحالية. ولحسن حظه، نجا هذا الأديب من معسكرات العمل القسري التي أرسل إليها أغلبية الأدباء الذين اتهموا بالترويج لأفكار معادية للنظام السوفيتي.
بعد عمل استمر لأكثر من 10 سنوات، أنهى باسترناك عام 1955 كتابة واحدة من أفضل الروايات التي كتبت باللغة الروسية. وقد تحدثت رواية الدكتور جيفاغو في ظاهرها عن الحرب الأهلية الروسية التي اندلعت عقب الثورة البلشفية. لكن بداخلها، حملت هذه الرواية جانبا تميّز بحديثه عن القيم الإنسانية والحب والموت وتفسيرا للحياة والعالم حسب المؤلف. وبسبب ذلك، حملت هذه الرواية بأعماقها شيئا منافيا للقيم السوفيتية لتلك الفترة التي طالبت بتسليط الضوء على دور البلشفيين بالحرب الأهلية والثناء على لينين ورفاقه. وعلى العكس من ذلك، جاءت رواية الدكتور جيفاغو لتبرز لقارئها جانبا مظلما ووحشيا للبلشفيين الذين شبّهوا بأعداء الحياة.
بالاتحاد السوفيتي، منع باسترناك من نشر كتابه. فضلا عن ذلك، طالب القائد السوفيتي نيكيتا خروتشوف بإنهاء مسيرته الأدبية وتحويله لشخص منبوذ بالبلاد.
نشرت الرواية في الغرب
في الأثناء، تمكن باسترناك بمساعدة عدد من أصدقائه من نقل روايته نحو الغرب لتنشر بداية من العام 1957 بإيطاليا. بالتزامن مع ذلك، استغلت وكالة المخابرات المركزية الأميركية الأمر وساعدت في نشر رواية الدكتور جيفاغو التي سرعان ما حققت مبيعات خيالية وتحولت لرمز من رموز المقاومة ضد النظام السوفيتي.
عام 1958، منحت اللجنة المنظمة جائزة نوبل للآداب للأديب بوريس باسترناك كتكريم له على عمله الشهير الدكتور جيفاغو. وفي الأثناء، أثارت هذه الحادثة غضب المسؤولين السوفيت الذين توعدوا بطرد باسترناك من البلاد نهائيا ومعاقبة عائلته في حال مغادرته لاستلام جائزته بستوكهولم.
وبسبب تعلقه بوطنه، فضّل باسترناك المكوث بمنزله والاحتفال بتتويجه رفقة أفراد عائلته. خلال الأشهر التالية، باشر النظام السوفيتي بحملة دعائية ممنهجة ضد باسترناك الذي طرد من لجنة الأدباء السوفيت ووصف بالخائن وعدو الشعب. فضلا عن ذلك، عقدت لجان الحزب الشيوعي بالمصانع والجامعات مؤتمرات أدانت فيها باسترناك وروايته واتهمته بخيانة البلاد وقيم الثورة البلشفية.
إلى ذلك، قضى باسترناك الأشهر الأخيرة من حياته حزينا ومنبوذا من قبل الجميع ليفارق الحياة عام 1960 عقب إصابته بسرطان الرئة. وقد ضلت روايته ممنوعة بالاتحاد السوفيتي لعقود قبل أن يسمح رسميا بنشرها خلال الثمانينيات تزامنا مع قرب انهيار الاتحاد السوفيتي.