أواخر العام 1919، آمن أغلبية الروس بحتمية انتصار الجيش الأحمر بالحرب الأهلية الروسية. فطيلة الأشهر السابقة، تلقى الجيش الأبيض، الذي جمع في صفوفه مناهضي الثورة البلشفية، خسائر فادحة على يد البلشفيين واضطر للتراجع على جبهات عدّة بسيبيريا وشمال روسيا وقرب بتروغراد (Petrograd). وخلال خريف 1919، فشل الجيش الأبيض في سحق البلشفيين وإنهاء وجودهم قرب موسكو فأجبروا بسبب ذلك على التراجع بشكل غير منظم نحو ضفاف البحر الأسود.
تصاعد وتيرة الهجرة
وفي خضم سنوات الحرب الأهلية، اعتمد كلا الجيشين الأحمر والأبيض مستوى عنف غير مسبوق، حيث لم يتردد الطرفان في تنفيذ عمليات إعدام جماعية ضد كل من اتهموا بالخيانة. وبعددها الصادر أواخر شهر آب/أغسطس 1918، حثت صحيفة البرافدا (Pravda)، التي أسسها لينين واعتمدت كأداة دعاية للبلشفيين، على إبادة كل من وصفوا بالبرجوازيين واتهموا بمعاداة طبقة العمال الثائرة.
إلى ذلك، انطلقت عمليات هجرة الروس من بلادهم نحو مناطق أوروبا الغربية منذ شهر آذار/مارس 1917. فعقب ثورة شباط/فبراير 1917 التي أجبرت القيصر نيقولا الثاني على الاستقالة، عمد كثير من الأثرياء الروس للرحيل نحو العواصم الغربية رافضين بذلك نظام الحكم الجديد وسلطة الحكومة المؤقتة بقيادة الوزير غيورغي لفوف (Georgy Lvov). وعقب ثورة تشرين الأول/أكتوبر التي قادها البلشفيون واندلاع الحرب الأهلية، تضاعف عدد المهاجرين الروس مرات عدّة لكن مع تقدم الجيش الأحمر بالحرب على حساب الجيش الأبيض اتخذت عمليات الهجرة شكلا جديدا لتتحول لعمليات هجرة جماعية.
إجلاء جنود الجيش الأبيض
وتزامنا مع تقدم قوات الجيش الأحمر، أجلي عدد كبير من قوات جيوش الجنوب، التابعة للجيش الأبيض، عبر موانئ البحر الأسود بفضل السفن الإيطالية والفرنسية والبريطانية التي نقلتهم نحو مناطق أخرى بالقرم واليونان ومصر وتركيا. وعلى حسب العديد من المصادر، قدّر عدد الجنود والمدنيين الذين تم إجلاؤهم حينها بنحو 30 ألف شخص.
من ناحية أخرى، جرت عمليات الإجلاء عبر موانئ البحر الأسود بشكل سريع وغير منظّم. وبسبب ذلك، بقي كثير من الجنود عالقين على ضفاف البحر الأسود ووقعوا أسرى في قبضة الجيش الأحمر عند بلوغه للمنطقة. وبينما أجبر الجنود الأسرى على الالتحاق بالجيش الأحمر للقتال على الجبهة البولندية، تعرّض القادة العسكريون الأسرى، المنتمون للجيش الأبيض سابقا، للتعذيب وأعدموا بطرق مختلفة تراوحت أساسا بين الشنق والرمي بالرصاص.
وخلافا لما حصل سابقا، جرت عمليات إجلاء جنود جيوش الجنوب من القرم بشكل منظم حيث نقل عشرات الآلاف منهم من مناطق يالطا وفيودوسيا وسيفاستوبول وإيفباتوريا نحو أماكن أخرى أكثر أمانا قبيل وصول الجيش الأحمر للقرم.
وقد أسفرت عمليات الإجلاء من القرم عن نقل نحو 130 ألف شخص، بين عسكريين ومدنيين، عبر سفن الجيش الأبيض والبريطانيين والفرنسيين نحو إسطنبول. لاحقا، غادر هؤلاء الروس الأراضي التركية وتفرقوا بمختلف أصقاع العالم بحثا عن حياة أفضل.
ملايين المهاجرين وعلماء بارزون
وبأقصى شرق البلاد، واجه الجيش الأحمر صعوبات في القضاء على قوات الجيش الأبيض حيث تميّزت هذه المناطق حينها ببعدها عن موسكو وبتروغراد ومساندة سكانها للنظام القيصري السابق. وبسبب كل هذه العوامل، انتظر الجيش الأحمر أواخر العام 1922 لإخضاع هذه المناطق التي فر عدد كبير من سكانها نحو الصين وشبه الجزيرة الكورية.
إلى ذلك، أسفر وصول البلشفيين لسدة الحكم والحرب الأهلية عن هجرة ما بين مليون ومليوني روسي من روسيا نحو مناطق بأوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية. وقد كان من ضمن هؤلاء المهاجرين الروس، الذين لقبوا بالمهاجرين البيض، كل من الملحن الشهير سيرغي رخمانينوف (Sergei Rachmaninoff) ورائد صناعة الطائرات إيغور سيكورسكي (Igor Sikorsky) ومهندس الطيران الشهير ألكسندر دي سيفرسكي (Alexander P. de Seversky) ومهندس السفن فلاديمير يوركيفيتش (Vladimir Yourkevich) والكيميائي الشهير، الفائز بجائزة نوبل للكيمياء عام 1977، إيليا بريغوجين (Ilya Prigogine).