خلال القرن الماضي، مرّت البشرية بإحدى أسوأ الأزمات الصحية على مر تاريخها، حيث عصفت جائحة الإنفلونزا الإسبانية بالعالم لتتسبب في وفاة حوالي 50 مليون شخص، كانت النسبة الأكبر منهم ببلاد بالهند، التي فقدت وحدها أكثر من 15 مليون إنسان.
وتماما كبقية دول العالم، ألقت الإنفلونزا الإسبانية بظلالها على الولايات المتحدة الأميركية، حيث قارب عدد الوفيات ببلاد العم سام (Uncle Sam) 675 ألفاً، توفي جلهم خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر 1918 الذي شهد وحده وفاة حوالي 200 ألف أميركي، ضمن ما عرف بأسوأ شهر بتاريخ البلاد.
أولى الحالات بالبيت الأبيض
إلى ذلك، لم يكن المسؤولون السياسيون الأميركيون والبيت الأبيض بحد ذاته في منأى من هذا المرض، ففي أشد هذه الأزمة الصحية أصيب العديد من مساعدي وأقارب الرئيس الأميركي، وودرو ولسن، بالإنفلونزا الإسبانية. وقد وثّقت إحدى أولى حالات الإصابة بالبيت الأبيض خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر 1918. فمن خلال مراسلته لعضو مجلس الشيوخ عن ولاية ميسيسيبي السيناتور جون شارب وليامز (John Sharp Williams)، اعتذر الرئيس وودرو ولسن عن الرد عن رسالة سابقة تلقاها بتاريخ 14 تشرين الأول/أكتوبر من عند وليامز، بسبب غياب سكرتيرته التي التقطت عدوى الإنفلونزا الإسبانية.
أيضا، نقلت صحيفة واشنطن بوست حينها تقريرا أكدت من خلاله على انتقال العدوى لمجموعة من الأغنام، التي تمت تربيتها بحديقة البيت الأبيض. وعلى جناح السرعة، تم نقل هذه الأغنام نحو أحد مستشفيات الحيوانات عقب ظهور بعض الأعراض عليها. وبفضل العناية التي حظيت بها من قبل وزارة الزراعة، عادت هذه الأغنام نحو البيت الأبيض عقب تعافيها من المرض بعد شهرين.
إصابات عدة لدى مرافقي الرئيس
في الأثناء، شهد شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1918 نهاية الحرب العالمية الأولى التي أرّقت البشرية على مدار 4 سنوات وتسببت في سقوط عشرات ملايين القتلى والجرحى. وتزامنا مع ذلك، استضافت باريس خلال الأشهر التالية مؤتمر السلام العالمي، الذي انعقد لوضع شروط السلام بأوروبا وحضره العديد من قادة القوى المنتصرة.
من جهة ثانية، مثلت عملية عبور الأطلسي والسفر نحو أوروبا لحضور مؤتمر باريس مهمة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للوفد الأميركي الذي كان عرضة لالتقاط العدوى خاصة مع غياب شبه تام للبروتوكولات الصحية أثناء مؤتمر السلام.
خلال شهر شباط/فبراير 1919، أصيب عدد هام من مرافقي ولسن بالإنفلونزا الإسبانية خلال رحلة العودة ما بين مدينتي بريست (Brest) الفرنسية وبوسطن (Boston) الأميركية. وقد كان من ضمن المصابين حينها عدد من أفراد جهاز الخدمة السرية والمسؤول بالبيت الأبيض إروين هود هوفر (Irwin Hood Hoover) والكاتب على آلة الكتابة المختزلة تشارلز سويم (Charles Swem). أيضا، التقطت مارغريت، ابنة الرئيس ولسن، العدوى أثناء سفرها للعاصمة البلجيكية بروكسل واضطرت لملازمة الفراش فترة. لاحقا، شفي كل هؤلاء المصابين وتمكنوا من العودة لمهامهم بشكل سريع.
إصابة الرئيس ولسن
في غضون ذلك، لم يكن الرئيس وودرو ولسن في مأمن من المرض حيث ظهرت أعراض الإنفلونزا الإسبانية عليه فعانى من ارتفاع درجة حرارته وسعال شديد وأرق ومشاكل بالجهاز الهضمي وظل طريح الفراش واضطر للتغيب عن مهامه خاصة مع حديث البعض عن ظهور ملامح ارتباك شديد عليه. وخلال شهر نيسان/أبريل 1919، راسل غاري غرايسون (Cary T. Grayson)، الطبيب الشخصي للرئيس، بشكل خاص أحد أصدقائه، مؤكداً على تحسن حالة ولسن على الرغم من معاناته من أعراض مرضية شديدة طيلة أسبوعين متتاليين. في مقابل ذلك، أخفى المسؤولون الأميركيون حقيقة إصابة الرئيس عن الشعب. ومن خلال تصريحاته للصحافيين، تحدّث الطبيب غرايسون عن معاناة الرئيس من نزلة برد خفيفة بسبب الطقس البارد والأمطار بباريس، كما أكد أيضا على تعافي ولسن بشكل سريع وتماثله للشفاء.
وقد جاءت إصابة ولسن في وقت حساس جدا، حيث كان حضوره حينها بمؤتمر باريس أمرا ضروريا لمناقشة مستقبل أوروبا والتعويضات الألمانية، وخطر البلشفيين وبرنامج بعث منظمة عصبة الأمم. وأمام تواصل غياب الرئيس، راسل عدد كبير من الأميركيين البيت الأبيض، متمنين الشفاء العاجل لولسن الذي تمكن من العودة لمهامه لاحقا عقب زوال الأعراض، ليواصل رئاسة البلاد لحدود سنة 1921.