مبدعتان أفغانيتان، تطلقان ألوانهما من وراء الحدود، تواجهان سطوة السلاح بالفرشاة، تناضلان بالرسم من أجل لفت أنظار العالم إلى بلاد باتت يحكمها سياط العنف، تحاولان أن تبعثا رسالة سلام لنقل وجع ملايين من النساء المقموعات تحت وطأة القهر، عبر لوحات تسطر المشاعر الإنسانية تنشرانها على منصاتهما في تويتر وإنستغرام، ترويان من خلالهما قصصاً مخيفة تسرد حكايا الهروب وفصول النزوح الأخير وقوانين الإذعان المفروضة قسراً، وتجسدان حالة من الصمود الجمعي ضد سيطرة طالبان التي اعتقلت مصير شعب واختطفت مستقبل بلاد للعودة بها إلى عصور الظلام.
صوت واحد من أجل أفغانستان
خارج حدود بلاد توصف بأنها مقبرة الإمبراطوريات، والتي ترضخ إلى حملة تطهير واسعة لمحو كل أشكال الفن من روحها مدنها ونبضها الثقافي، وتعليقاً على مقطع فيديو لمظاهرة النساء الأفغانيات ضد طالبان، نشرته على انستغرام، قالت سارة رحماني: "لا شيء يمكن أن يوقفني، إذا كان لديّ صوت واحد سأصرخ به من أجل وطني وشعبي".
رسالة إلى العالم: إلى متى سينتهي هذا؟
سارة المقيمة حالياً في كاليفورنيا بأميركا، لايزال قلبها معلقا بأفغانستان، ترسم بدمها صورا مخيفة تجسد ذلك السقوط المروع لبلدها على يد طالبان. ترسم سارة فتيات جميلات يمثلن ثقافة بلدها، وتظهر لون العيون والعنفوان الذي تتسم به أرواحهن، وعبرت بحرقة في حديث سابق لوكالة سي إن إن الأميركية، وروت مأساة أفغانستان وهي تمسح دموعها من خدها "أريد أن يعرف العالم أن هناك أناسا أبرياء يُقتلون. يفقدون أمهاتهم، ويفقدون أطفالًا، متى سينتهي هذا؟".
فيديو يسرد قصة وطن بالدم والدموع
منذ سيطرة طالبان على العاصمة كابل، قررت سارة رحماني وهي تشكيلية أفغانية، أن تحارب طالبان بريشتها، تلون وجع وطنها بدمها ودموعها، وفي لوحاتها التي تدمجها في مقاطع فيديو تسرد فصول قصة سينمائية مع نفحات غنائية، تبرز من خلاله جوهر الفلكلور الأفغاني برقصات الأطفال وعيون الفتيات اللواتي يقاومن الدمعة بعين، ويبتسمن للحياة بعين أخرى، حاملة عبر رسالة الرسم والموسيقى حكايا الوطن المسلوب.
القوة الناعمة التي ستحرر أفغانستان
ترسم الزي التقليدي بألوانها المبهجة، بوصفة جوهر هوية ونفحة ثقافة، وتنشر أغنيات أجنبية على خلفية رسوماتها بطريقة مقاطع "ريلز" لتقاوم العنف بالرقص، وتنتصر بالموسيقى للحياة ضد شعارات السواد، ترسم امرأة متوشحة برداء الشموخ، ترتدي قلادة من تراث بلدها الأسير، تنظر إلى السماء بنظرات تحد كلها كبرياء، تحاول أن تقول عبر هذه الرسمة إن المرأة هي تلك القوة الناعمة التي ستحرر أفغانستان.
ما يحدث لهؤلاء شيء مروع ذنبهم الوحيد أنهم مبدعون
قبل أن تهاجر سارة إلى أميركا منذ 4 أعوام، كانت تدرس الهندسة المدنية في العاصمة الأفغانية كابل، حيث عاشت معظم حياتها، قالت: "أشعر بإحباط وأسف على كليتي وصديقاتي العزيزات اللواتي لم يستطعن إكمال دراستهن بسبب الوضع الجديد الغامض الذي يكتنف مستقبلهن".
وتزيد: "ما يحدث في بلدي شيء مروع، صحيح أنني بعيدة ومرتاحة مادياً لكنني في الحقيقة مهمومة وخائفة، فثمة حزن غائر في روحي، وطني أصبح مفقوداً ولا شيء ينبض في داخلي سواه". وتكمل بحرقة: "أريد أن أخبر العالم أن هناك بلداً اسمها أفغانستان يموت فيه أناس أبرياء وفتيات وفنانون وأشخاص لا ذنب لهم سوى أنهم مبدعون".
سطوة قمعية ضد النساء وتعليقات تتساءل عن اختفائها
قصة أخرى بطلتها رسامة غرافيتية شمسية حساني، التي أثارت مخاوف لدى كل محبيها بعد اختفائها منذ نحو أسبوع، وتوقفها عن نشر أعمالها الفنية على صفحتها الرسمية في تويتر، وانهالت التعليقات من متابعيها تدعم فنها وتتساءل عن مصيرها خشية أن يطالها أي أذى من طالبان الذين عرفوا بسطوتهم القمعية ضد الفنون وعمل النساء على وجه الخصوص.
صرخة على الجدران تتحدى طالبان
موهبة شمسية تنتمي إلى فن الغرافيتي الذي تعود بداياته إلى رسومات الكهوف منذ 40 ألف عام، لهذا فإن شمسة (33 عاماً) تتحدى بجدارياتها سطوة طالبان، وتعتبر لوحاتها بمثابة صرخة تحدٍ ضد القمع، وقد اشتهرت شمسية بلوحتها لامرأة ملطخة بالدم نتيجة أحد الانفجارات التي أوقعت كثيرا من الضحايا في شوارع أفغانستان.
بيانو محطم تحت البرقع
كوابيس طالبان جسدتها ريشة شمسية بالغرافيتي، حيث تحمل رسوماتها إشعاعات ألم وأمل تواريه بملامح شموخ ونظرات تحدٍ، تحارب العتمة بالفرشاة، وتتحدى الرصاص بالورود، وتبعث رسائل حب وسلام لكل نساء وطنها المنهك، ترسم فتاة بيدها شمعة تضيء في وجه مسلح قابع في العتمة، وتعكس في جدارية أخرى عنونتها بـ"الكابوس"، صورة لامرأة تمسك بيانو تحت البرقع التقليدي الذي يغطي كامل جسدها. وتقول حساني: "بلا أمل أحبك يا بلدي، أحبك دائماً، وسأنتظر اليوم الذي تكون فيه حراً ومزدهراً حتى نعود جميعاً، ونقدر وجودك أكثر من أي وقت مضى".
أول فنانة غرافيتي وأستاذة نحت ترسم لربع مليون متابع
شمسية حساني تواظب على توظيف صفحتها على انستغرام والتي يتابعها نحو 250 ألف متابع، من أجل نقل وجع النساء في بلدها أفغانستان إلى العالم، وتعد حساني أول فنانة تمارس فن الغرافيتي في أفغانستان، وترشحت لنيل جائزة آرتريكر بلندن. ومن بين أعمالها صورة المرأة ذات البرقع الأزرق كما كانت تعمل أستاذة النحت في جامعة كابل.
قصة العودة إلى الوطن الأم.. عبور من المأساة إلى النجاة
بكلمات تؤجج بالعاطفة، تروي شمسية لمتابعيها قصة جدارية أبدعتها امرأة تسير على حبل مشدود فوق مباني مدينة كابل الشاهقة، لتعبر من الماسأة إلى النجاة، فتقول: "أتذكر عندما عدنا إلى أفغانستان قبل 16 سنة بعد سقوط طالبان لأول مرة شعرت بالوطن. لم أعد مضطرة لإخفاء هويتي في قلبي، كنت أقول بسعادة إنني أفغانية وهذه أفغانستان حيث أنتمي، وهذا هو بلدي! وعندما رأيت خريطة أفغانستان كنت أقول لنفسي كم هو رائع أن تكون هذه القطعة من الكوكب ملكي ومكاني. يا له من شعور جميل بملكية وطن خاص لروحك".
وتتابع شمسية قصتها: "بعدها دخلت كلية الفنون الجميلة – جامعة كابل، فعادت الحياة بالتدريج، ثم فجأة بدأت الانفجارات تحاصر الجميع، كنا نخشى أن يعود طالبان مرة أخرى. فبعد أن أصبح وجه كابل جميلاً، وذهبت الفتيات إلى المدارس والجامعات، توهجت من حديد البرامج الثقافية والفنية، وتم إنشاء مساحات جميلة للمناسبات الودية والمقاهي والمراكز الثقافية والمطاعم".
طفولة منهوبة وشباب مسروق في حوادث انفجارات
وفي ذات الوقت كانت الحرب تشتعل! كل شخص منا قادته قدماه أكثر من مرة قرب انفجار ما، أتذكر مرة ذهبنا فيها إلى المسرح، وفجأة انفجر المبنى من الداخل، كنت على بعد أمتار قليلة فقط من الانفجار، فشعرت بشعلة ساخنة، وتطايرت الأشلاء والدماء في وجهي، كنت مصدومة للغاية، اعتقدت حينها أنني جرحت نفسي، ومن يومها وقلبي يهتز مع أصغر الأصوات.
وتضيف شمسية: "الحياة مع الخوف جعلتنا جميعا كباراً من الداخل، لم نستمتع بطفولتنا ولا بشبابنا، فقدت أعزاء كثيرين في حوادث انفجار، وفارقنا أفراد آخرون غادروا البلاد نحو المجهول، فمنهم من خسر حياته في طريق الهجرة والتهريب، وعلى الرغم من وجع الحرب الذي يلازمنا، لا زلنا نحلم بغد أجمل ونتحدى الألم الذي يستوطن بلادنا وأرواحنا بأمل أكثر شساعة منه".
هكذا مروا دفعة واحدة
وفي ذات المنشور نفسه المدّون مع رسوماتها، عبرت شمسية عن حرقة فقدها لبلدها فقالت: "صعب جداً أن نصدق، كيف تدمر كل شيء دفعة واحدة، الأصدقاء والمقربون تبعثروا إلى مختلف جغرافيا العالم خلال أسبوع أو اثنين لم نعد نعرف متى وأين سنلتقي مرة أخرى، ومن بقي في أفغانستان ولم يستطع المجيء".