مع نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط برلين وانتصار الحلفاء على دول المحور، آمن الجميع بإمكانية حصول تغييرات بسياسة ستالين التي أدار بها شؤون الاتحاد السوفيتي لنحو عقدين من الزمن. وفي الأثناء، توقع كثيرون اعتماد ستالين سياسة أكثر لينا، بعيدة عن ويلات التطهير الكبير بالثلاثينيات، مع مواطنيه المنهكين من أهوال الحرب العالمية الثانية التي قتل خلالها ما لا يقل عن 20 مليون سوفيتي.
إلى ذلك، كان لستالين رأي مخالف تماما. فعقب الحرب العالمية الثانية، عجّت مراكز العمل القسري، المعروفة بالغولاغ (Gulag)، أكثر من أي وقت مضى بالمعتقلين. وتماما كمشروع قناة البحر الأبيض بالثلاثينيات، اتجه ستالين لاستغلال هؤلاء المعتقلين، الذين مثلوا يدا عاملة مجانية، لإنجاز مشاريع ضحمة كان أهمها مشروع سكة الحديد بسيبيريا الملقب بالسكة الحديدية ساليخارد – إيغاركا (Salekhard–Igarka).
أغراض دعائية
وقد ظهر هذا المشروع بهدف الربط بين منطقتي ساليخارد وإيغاركا عن طريق إنشاء خط سكك حديدية يمتد لمسافة 1300 كلم. فضلا عن ذلك، أيّد أغلبية أعضاء الحزب الشيوعي السوفيتي هذه الفكرة لتسهيل نقل الموارد الطبيعية، خاصة النيكل (Nickel)، نحو المصانع التي تركّز عدد هام منها قرب سيبيريا خلال فترة الحرب العالمية الثانية تزامنا مع تقدم الجيش الألماني نحو موسكو ولينينغراد.
خلال العام 1948، روّجت آلة الدعاية السوفيتية لمشروع السكة الحديدية الممتدة لمسافة 1300 كلم، مؤكدة على قدرته في إحداث نقلة نوعية بمجال الصناعة وتأثير ذلك على اقتصاد البلاد المنهك من ويلات الحرب العالمية الثانية.
وبناء على أوامر جوزيف ستالين، انطلقت أشغال بناء هذه السكة الحديدية بشكل مبكر عام 1949 قبل انتهاء المهندسين من وضع تصاميمها. فضلا عن ذلك، طالب القائد السوفيتي بضرورة إتمام هذا المشروع بوقت قياسي لأغراض دعائية حاول من خلالها تلميع صورة الاتحاد السوفيتي على الصعيد العالمي وإبرازه كقوة صناعية قادرة على مقارعة الولايات المتحدة الأميركية في خضم الحرب الباردة.
سكة الموت
ولإنجاز مشروع سكة ساليخارد – إيغاركا، أمر ستالين بالاعتماد على المعتقلين بمراكز العمل القسري، الغولاغ، التي عجت بأسرى الحرب والمعارضين. وتنفيذا لأوامر ستالين، نقل أكثر من 120 ألفا من المعتقلين نحو مواقع العمل في ظروف قاسية عبر عربات قطار خصصت بالعادة لنقل الدواب.
وأثناء هذه الرحلة الشاقة التي استمرت لأيام، تزاحم المئات من المعتقلين داخل العربات وافتقروا للطعام والشراب الكافي. وبسبب كل ذلك، انتشرت أمراض كالتيفوئيد والإسهال بين هؤلاء المساجين وفارق العديد منهم الحياة قبل بلوغ مواقع العمل.
أثناء فترات العمل، اضطر المعتقلون لاستخدام أدوات بسيطة كالمعول والمجرفة اليدوية وتحمل ويلات التقلبات المناخية بالمنطقة وسوء التغذية. فخلال فصل الشتاء، نزلت درجات الحرارة أحيانا لخمسين درجة تحت الصفر. وأثناء الصيف، غمرت المياه والطين المنطقة، التي عجّت بالبعوض والذباب، مما صعّب ظروف العمل.
على الرغم من تلقيه تقارير عديدة حول التكلفة المرتفعة وأرقام الوفيات المفزعة، رفض جوزيف ستالين وقف العمل على مشروع السكة الحديدية ساليخارد – إيغاركا وأصر على إتمامه في أقرب وقت. وبسبب تصاميمها السيئة وتشييدها على عجل، انهارت العديد من الجسور بخط السكك الحديدية. فضلا عن ذلك، اتجهت القطارات لعدم تجاوز سرعة 16 كلم بالساعة بسبب إجراءات السلامة الرديئة.
مع وفاة ستالين عام 1953، تخلّى القادة الجدد للاتحاد السوفيتي عن مشروع السكة الحديدية ساليخارد – إيغاركا بعد أن تم تشييد أكثر من نصفها. وقد ضلت هذه السكة مهملة ومهجورة لسنوات قبل أن يعود فيما بعد المختصون السوفيت لاقتلاعها بهدف استغلال الحديد بمشاريع أخرى. من ناحية أخرى، أسفر هذا المشروع السوفيتي الفاشل عن وفاة ما لا يقل عن 60 ألفا ممن عملوا عليه ليلقب بسبب ذلك بسكة الموت.