في بلد كان يوصف بـ"السعيد"، لا يوجد بيت لم يطرق الموت أبوابه، أو تهتز أركانه فقداً، ويمطر سقفه دماً، تتشظى أحلام ساكنيه وسط الدمار. لا توجد عائلة يمنية لم تشهد مذبحة أو تستقبل جثة في هذا البلد المنكوب، لم تترك آلة الحرب بشرا أو حجراً أو شجراً إلا ودهسته في طريقها، البلاد التي كانت جنة العروبة أصبحت مأتماً مفتوحاً على مصراعيه، وأصبح القهر طاغيا كبيراً يحاصر 30 مليون يمني، يرزحون تحت سطوة الخوف، يعيشون أقسى درجات المرارة، وأعلى مراتب الخذلان من العالم كله.
شعب مطحون أصبح يرى منظر الدم أمراً عادياً، يتعايش مع الخراب كجزء من سيرة يومه الحزين، الجميع محطمون من الداخل، بلا قوت ولا رواتب، متساوون في الخسارة، يخبئون جوعهم عن بعض المنظمات الإنسانية التي تتاجر بكرامتهم أمام عدسات الكاميرا، يكتمون وجعهم وفجائعهم، معتزين بصلابتهم، يبتسمون لبعضهم رغم طعم المرارات وهول المؤامرات.
ذوو الهمم للمنظمات: نحن خارج معادلة الحياة تقريباً
وفي إفادات خاصة، عبر شباب يمنيون لـ"العربية.نت"، عن حجم الخسائر النفسية التي كبدتهم بها الحرب خلال 7 سنوات عجاف. يقول عمار الصبري أحد الشباب من ذوي الهمم: "لقد خسرنا وطناً كان بمثابة الأب والأم، تمزقت الأواصر، وذابت الروابط الاجتماعية والعادات والقيم اليمنية الأصيلة التي دهستها آلات الحرب"، ويتابع: "خسرنا أعظم شيء هو الإنسان، مشيراً الى أن ذوي الهمم أكثر من تضرر من الحرب.. "خسرنا أبسط حقوقنا أيام السلم والسلام والاستقرار، فتخيلوا فواتير خسارتنا أيام الحرب، فنحن خارج معادلة الحياة تقريباً، فلم يعد ينظر إلينا سوى بعض المنظمات بفتات مهين أكثر من النسيان".
ويضيف عمار: "لدينا رغبة واحدة فقط هو أن نمتلك حق الأمان، فضلاً عن كوننا مهمشين بلا وظائف رغم سعينا للتعلم وتأهيل قدراتنا، ولم نتمكن حتى أن نعيش بسلام مادياً ونفسيا واقتصادياً واجتماعياً، لسنا غائبين فننسى ولا حاضرين فنرجى، نتحدى الحرب بالأمل ونخرج من تحت الركام، نبقى واقفين لكننا في بعض الأحيان نسقط، فلا نجد ثمة من يمسك بأيدينا لكي نستمر في الصمود".
وطن مدمر بالكامل والمدنيون هم الخاسر بمعادلة النزاع
إلى ذلك، دفع المدنيون وحدهم فاتورة فادحة بسبب مآسي الحرب، الأطفال هم الضحية بين أطراف النزاع المسلح، والخاسر المطحون في معادلة الصراع. هذا ما أكده مشاركون في استبيان "وقف إطلاق النار الشامل"، الذي أعدته "منصتي 30" المشروع التابع لمؤسسة RNW Media وهو ضمن أنشطة مشروع السلام، الذي يتم بالتعاون مع اليونسكو، وبتمويل من صندوق الأمم المتحدة لبناء السلام PBF.
في ذات السياق، قال ميثاق الشميري: "لقد خسرت أغلى بشر في حياتي، خسرت والدي الذي قتل بدم بارد دون أن يتدخل مع أي طرف، بينما لفت عمرو ياسر إلى أنه خسر وظيفته ومستقبله وصحته وفقد فلذة كبده أمام عينيه، وأضاف آخر : "الحرب سرقت الطفولة من أبناء الوطن، حطمت طموح الشباب، فقتلت روح الأمل والإبداع، حرقت البنية التحتية، إننا نبكي اليوم على وطن أصبح مدمراً بالكامل ولا يصلح لأبسط مقومات العيش".
واقع معيشي أسود ميئوس من أي تلويح بتهدئة أو انفراجة سلام
ومع انعدام كافة أشكال الحياة بسبب الحصار والانقطاع عن العالم الخارجي، وما ترافق معه من انقطاع كهرباء ومرتبات ومشتقات نفطية وغلاء أسعار وتدهور التعليم والصحة وتدني مستوى المعيشة تحت خط الفقر، كل تلك العوامل، خلقت بيئة خصبة للعنف والصراع وسط حروب مشتعلة، وواقع معيشي أسود ميئوس من أي تلويح بتهدئة أو انفراجة سلام. ويعبر شاب آخر، لـ"العربية.نت" قائلا: "لا أستطيع رؤية أهلي بسبب قطع الطرقات بين صنعاء والضالع، كوني أعمل في محافظة أخرى، وأصبح السفر طويلاً وخطراً.. لقد خسرنا أفدح ما يمكن أن يخسره شعب، وهو أننا فقدنا الهوية".
يقف شاب يمني آخر، على خسائر الحرب، ويحصي فجائعه على رؤوس أصابعه، فيقول: "سلبتني الحرب أشياء لا تقدر بثمن، ولا يمكن تعويضها طوال العمر، فقد جعلتني أحصي أرقام الضحايا والقتلى الذين أعرفهم من محيطي الاجتماعي، وأصبحت أنظر للحياة من منظور بائس لدرجة أنني أعيش كل يوم بانتظار الدور في طابور المصير الحالك".
تجار الدم سرقوا هوية وطن تحت لافتة المجهود الحربي
"في موازاة ذلك، فإن الحديث عن الانتماء لوطن، والشعور بصعوبة التعايش، شعور مرعب وقاس لا نستطيع الإفصاح أو التعبير عنه"، هذا حال كثيرين في بلاد أغرقها نزيف الحرب، خسروا الأرواح وتمزق الاقتصاد وساءت الحياة المعيشية وفسد التعليم والطب وانقطعت المرتبات والمشتقات النفطية وكل شيء أساسي وضروري للعيش، معتبرين أن المستفيدين هم سماسرة الحرب وتجار الدم وآكلو الضرائب والزكاة والجمارك تحت لافتة المجهود الحربي والسوق السوداء للجبهات، إلى جانب فرض الجبايات وأخذ حصة الربع من كل شيء حتى من الأعراس والمدارس الخاصة حتى أكلوا لحم اليمنيين باسم "العدوان".
نحن الجيل الوحيد الذي لن يقول ألا ليت الشباب يعود يوماً
ويختصر شاب آخر شريط وجعه الطويل، معتبراً أن الأرواح أهم خسائره في هذه الحرب، إلى جانب انعدام نعمتي الأمن والأمان، عوضاً عن فداحة العيش تحت سياط الظلم وأسوار الحصار، وفقدان العمر والطموح المستقبل، وما ترتب عليها من ذوبان كل معاني المحبة وقيم السلام والإنسانية والحرية. ويواصل: "في عز شبابنا تفجرت ثورات ونكبات وحروب طاحنة، نحن الجيل الوحيد الذي لن يقول ألا ليت الشباب يعود يوماً، نحن الجيل الذي شاب رأسه في أول شبابه".
ومنذ نشوب الحرب الدائرة في اليمن، ازدادت وتيرة العنف اشتعالاً فأحرقت نسيج المجتمع كله، وسادت قيم دخيلة أفسدت جوهر التركيبة القبلية، برز معه إحساس جمعي بعدم الأمان، ساهم في تأجيج الخوف من الآخر، ما دفع كثيرين إلى حمل السلاح وجعله لغة جديدة للتعامل والتعاطي مع الآخرين، لتضيع بسببه القيم الجميلة التي كان يعتز بها اليمنيون من تسامح وطيبة وشهامة ونبل.
نازحون عالقون وآخرون تحرروا من العبودية والتبعية والارتهان
واعتبرت وسائل ووكالات الإعلام الدولي، أن نزوح الآلاف اليمنيين من سكان القرى المنكوبة من أبرز مآسي الحرب، فلا يزال الكثير منهم عالقين تتقطع بهم السبل بحثاً عن ملاذات آمنة، لكن في المقابل هناك من عبروا خطوط النار، ساعدتهم الظروف للهروب خارج البلاد، يقول أحدهم: "الحرب في اليمن لم تسلبني شيئا بل أعطتني الكثير، أعطتني الأمن والأمان والاستقرار والاستقلال أعطتني العزة والكرامة والحرية، ومنحتني كل ما كنت أحلم به في دولة كريمة تحترم إنسانية الإنسان. فقد نجونا من ظلم الظلاميين، الذين عكروا صفو العيش وقلة المعيشة"، وأتمّ: "لقد تحررنا أخيراً من العبودية والتبعية والارتهان للمشاريع الضيقة".