على مر التاريخ، لعبت العديد من الاختراعات والابتكارات دوراً هاماً في إنهاء حياة أعداد كبيرة من البشر. وإضافة لاسم ألفرد نوبل مخترع الديناميت وفريتز هابر الملقب بأبي الحروب الكيماوية والذي ابتكر العديد من الغازات السامة، وروبرت أوبنهايمر المدير العلمي لمشروع مانهاتن والملقب بوالد القنبلة النووية، برز للعالم بالقرن الماضي اسم المهندس الزراعي وعالم الأحياء السوفيتي تروفيم ليسينكو (Trofim Lysenko) حيث ارتبط اسم الأخير بنظريات غريبة صنّفت حسب كثيرين بأسوأ من القنبلة والسلاح الكيماوي. فمع تطبيقها بالاتحاد السوفيتي (سابقا)، أسفرت أفكار ليسينكو عن مجاعات أودت بحياة ملايين البشر.
صعود ليسينكو
ولد تروفيم ليسينكو عام 1898 بمجتمع فلاحي فقير بكارليفكا (Karlivka) بأوكرانيا فكبر وترعرع وتذوق ويلات الفقر والجوع وتأثر أثناء شبابه بما جاء به البلشفيون وثورتهم من وعود بتوفير الغذاء وتوزيع الأراضي وإقامة العدالة الاجتماعية وتوفير حقوق العمال والفلاحين. وبفضل ذلك، أصبح ليسينكو أحد أشرس المدافعين والمناصرين للتيار الشيوعي. وعند اصطدام البيولوجيا مع الإيديولوجية الشيوعية، لم يتردد ليسينكو في مساندة الشيوعية مؤكدا أن البيولوجيا ستمتثل للشيوعية في نهاية المطاف.
وعلى حسب عدد من المصادر، ظل ليسينكو أمّيا لحين بلوغه الثالثة عشرة من العمر إلا أنه استغل الثورة البلشفية وصعود الشيوعيين ليلتحق بالعديد من مدارس الفلاحة السوفيتية المرموقة، ولجأ لتجارب غريبة حاول خلال بعضها زراعة البازيلاء أثناء فترات الشتاء الروسي القاسي. وعلى الرغم من وجود دلائل على قيامه بتزوير بعض نتائج تجاربه، أثنت صحف سوفيتية على تجارب ليسينكو عام 1927 ولقّبه الناس بالعالم حافي القدمين، ومجّده الحزب الشيوعي السوفيتي الذي أكّد مرارا على مساندته للفلاحين.
وخلال الثلاثينيات، لم يتردد الحزب الشيوعي في تعيين ليسينكو ضمن قائمة أهم المسؤولين على البرنامج الزراعي السوفيتي. ومع حصوله على هذا المنصب، برزت النظريات الغريبة لليسينكو للعالم حيث ضرب الأخير علوم الوراثة المعاصرة والمندلية والداروينية عرض الحائط ووصفها بالعلوم البورجوازية والفاشية والنازية، فأحيا مجددا نظريات شبيهة بنظريات الوراثة اللاماركية، رافضا بذلك فكرة انتقال الخصائص عن طريق الجينات ومحدثا عن إمكانية تأقلم الحيوانات والنباتات مع المحيط الذي وضعت فيه وقدرتها على توريث ما تعلمته واكتسبته من خبرة أثناء حياتها للأجيال القادمة.
ومع حصوله على منصب مدير أكاديمية لينين للعلوم الزراعية بالاتحاد السوفيتي، قاد تروفيم ليسينكو حملة سياسية كاملة ضد علم الوراثة المبني على أسس علمية وساند نظريات خرافية ووهمية كاللاماركية والادعاءات المبالغ لصالح التجميد التنشيطي وتطعيم النباتات أيضا، وتحدّث ليسينكو عن إمكانية تحويل الذرة لقمح وعن عدم وجود منافسة حول الغذاء بين النباتات من نفس النوعية، ومن نفس الطبقة حسب وصفه، وقدرتها على اقتسام الغذاء فيما بينها بشكل عادل، فدعا الفلاحين لزراعة النباتات بشكل متقارب، كما منع استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة. أيضا، جاء ليسينكو بفكرة غريبة أكد من خلالها على إمكانية زراعة القمح بمناطق باردة جدا كسيبيريا وقدرة القمح على توريث هذه التجربة للأجيال التالية.
ستالين على الخط
من جهة ثانية، وجد ليسينكو في القائد السوفيتي جوزيف ستالين أبرز مساند لنظريته حيث لم يتردد الرجل الحديدي، ستالين، في دعم كل نظرية جديدة، حتى وإن كانت غريبة وخاطئة، أملا في إبراز المكانة العلمية للسوفيت والشيوعية بالعالم. إلى ذلك، تحوّلت عملية نقد ما بات يعرف بالليسنكووية لأمر غير مرغوب فيه، واتهم كل من يقوم بذلك بأبشع التهم كالخيانة العظمى والتآمر على البلاد والحزب ومساندة الفاشية. وطيلة السنوات التالية، تعرض نحو 3 آلاف عالم سوفيتي للاعتقال على يد ستالين فأعدم بعضهم وأرسل البقية نحو مراكز العمل القسري المعروفة بالغولاغ.
ومن ضمن ضحايا نظريات ليسينكو، يذكر التاريخ اسم العالم ومدير معهد الوراثة نيكولاي فافيلوف (Nikolai Vavilov) حيث تعرض الأخير للنقد من قبل تروفيم ليسينكو بسبب أفكاره وكتاباته حول الوراثة والزراعة. وكرد على ذلك، اعتقل فافيلوف على يد شرطة ستالين واتهم بممارسة أعمال تخريبية عام 1941 فسجن وتوفي سنة 1943 بسبب سوء التغذية.
نتائج كارثية
بعد وعود بثورة زراعية غير مسبوقة بالتاريخ الإنساني، جاءت نتائج نظريات ليسينكو مخيبة للآمال فتسببت، رفقة سياسة ستالين، خلال الثلاثينيات في تراجع المحاصيل الزراعية ومجاعة أودت بحياة نحو 7 ملايين. من جهة ثانية، لم تتردد بعض دول المعسكر الشرقي في اعتماد الليسنكووية فعرفت مصيرا مماثلا، كما لجأت جمهورية الصين الشعبية أثناء عهد ماو تسي تونغ لتطبيق أفكار ليسينكو فعرفت مجاعة مشابهة أودت بحياة الملايين.
وقد استمر تطبيق الليسنكووية في عدد من دول المعسكر الشرقي لعقود قبل أن تعرف هذه الأفكار والنظريات الغريبة نهايتها منتصف الستينيات حيث فضّل الجميع حينها العودة لعلوم الوراثة المتعارف عليها.