في حين ما زالت الأبحاث والدراسات تحاول فك غموض فيروس كورونا المستجد الذي طال حوالي 17 مليون شخص حتى الآن ومعرفة أصل مكان نشأته، شكّلت أصول مرض الأنفلونزا الإسبانية على مدار عقود، مصدر اختلاف بين العديد من المؤرخين وعلماء الوبائيات.
فما بين شباط/فبراير 1918 ونيسان/أبريل 1920، أصيب 500 مليون شخص حول العالم بالأنفلونزا الإسبانية فارق منهم نحو 50 مليون نسمة الحياة وبذلك تخطى عدد ضحايا هذه الجائحة بأضعاف عدد ضحايا الحرب العالمية الأولى التي استمرت لأكثر من 4 سنوات وأودت بحياة ما يزيد عن 15 مليون شخص.
من جهة ثانية، يتفق الجميع على الدور الهام الذي لعبته الحرب العالمية الأولى في تسهيل انتشار الأنفلونزا الإسبانية حيث ساهمت حركة تنقل الجنود بين مختلف الدول في تفشي المرض كما كان للرقابة والتعتيم الإعلامي الذي مارسته بعض الدول كفرنسا وألمانيا وبريطانيا بسبب حالة الحرب دور هام في زيادة عدد الإصابات حيث لجأ المسؤولون بهذه الدول لإخفاء الأرقام الحقيقية لعدد الضحايا لتجنب إثارة البلبلة والقلق في صفوف المواطنين والحفاظ على الروح المعنوية للجنود.
إلى ذلك، أثار مصدر ظهور الأنفلونزا الإسبانية جدلا واسعا لعقود طويلة فبينما ألقى البعض باللوم على الولايات المتحدة الأميركية وصف آخرون فرنسا وبريطانيا بمصدر المرض كما اتجهت دراسات حديثة لتوجيه أصابع الاتهام للصين التي عاشت حينها على وقع أزمات سياسية عدة، كما تعيش حاليا خلافا متصاعد مع واشنطن بسبب اتهام الرئيس الأميركي دونالد ترمب المتكرر لها بالتقصير وعدم الشفافية في تعاملها مع جائحة كورونا.
أولى الحالات في أميركا
وبالولايات المتحدة الأميركية، سجّلت أولى الحالات الرسمية يوم 4 آذار/مارس 1918 حيث كان الطباخ ألبرت غيتشل (Albert Gitchell) العامل بمطابخ قاعدة فونستون (Funston) العسكرية بولاية كانساس أول حالة التقطت الفيروس المسبب للمرض. وتدريجيا، تفشت الأنفلونزا الإسبانية بالمعسكر فأصابت المئات خلال الأيام التالية وأسفرت تدريجيا عن وفاة العشرات قبل أن تسجل ظهورها لاحقا بنيويورك. لكن قبل ذلك، تحدّث عدد من أطباء تلك الفترة عن تسجيل حالات حملت أعراضا مشابهة للأنفلونزا الإسبانية خلال يناير 1918 بمقاطعة هاسكال (Haskell) بولاية كانساس إلا أنهم عجزوا عن تشخصيها بشكل واضح مبدئيا بسبب تشابهها لحد كبير مع الأنفلونزا العادية. ومع نقلهم لأعداد كبيرة من الجنود للساحة الأوروبية عبر ميناء برست الفرنسي، نقل الأميركيون الفيروس المسبب للمرض لأوروبا وساهموا في تفشي الجائحة بها.
ظهور الإنفلونزا الإسبانية
وبأوروبا، قدّم المختص الإنجليزي بعلوم الفيروسات جون سيدني أوكسفورد (John Sydney Oxford) نظريات حول ظهور الأنفلونزا الإسبانية بفرنسا منذ عامي 1916 و1917 مؤكدا على توافد عدد كبير من الجنود المصابين بأعراض أنفلونزا حادة ومميتة على مستشفى إتابلس العسكري بالشمال الفرنسي. وبناء على ما قدّمه العالم أوكسفورد، توافد يوميا على بعض المستشفيات الميدانية عشرات آلاف الجنود المرضى والمصابين وتكدّسوا بها كما تواجدت بالقرب من هذه المستشفيات أعداد كبيرة من الخنازير والدواجن التي جيء بها لإطعام الجنود وقد شكّلت هذه الظروف مناخا ملائما لظهور وتفشي فيروس الأنفلونزا الإسبانية.
الصين مصدر محتمل للفيروس
على حسب ما جاء به العالم بمعهد باستور الفرنسي كلود هانون (Claude Hannoun)، رشّح الأخير الصين كمصدر محتمل للأنفلونزا الإسبانية فحدّث عن ظهور الفيروس بها وتطوره عن طريق طفرة بالولايات المتحدة الأميركية قبل أن ينتقل لأوروبا عن طريق تحركات الجيوش.
من جهة أخرى، دعم المؤرخ من جامعة ميموريال بنيوفاوندلاند بكندا (Canada's Memorial University of Newfoundland) مارك همفريز (Mark Humphries) هذه النظرية فتحدّث عن تجنيد بريطانيا وفرنسا لنحو 96 ألف عامل صيني للعمل خلف خطوط القتال في مجال نقل المؤن والذخيرة. وعلى حسب سجلات أرشيفية طبية، أكد همفريز على ظهور مرض تنفسي تشابهت أعراضه بشكل كبير مع أعراض الأنفلونزا الإسبانية بشمالي الصين خلال تشرين الثاني/نوفمبر 1917. إلى ذلك، انحدر أغلب العمال الصينيين الذين نقلوا نحو أوروبا زمن الحرب من شمال الصين أي منطقة تفشي المرض.
وعلى حسب همفريز، مرّ أغلب هؤلاء الصينيين بكندا قبل أن يحطوا الرحال بأوروبا. ومن ضمن 25 ألفا منهم ممن عبروا كندا، اضطر 3 آلاف عامل صيني للمكوث بالحجر الصحي عقب ظهور أعراض أنفلونزا حادة عليهم كما فارق المئات منهم الحياة بمستشفيات فرنسية عقب تدهور حالاتهم ومعاناتهم من مشاكل تنفسية.
أيضا، رجّح بعض المؤرخين نظرية ظهور المرض بالصين بسبب معدلات الوفيات المنخفضة بها زمن الجائحة فتحدّثوا عن اكتساب الصينيين لمناعة ضد الأنفلونزا الإسبانية بسبب تفشي الفيروس بشكل مبكر بينهم وأكّدوا على حصول طفرة بالفيروس المسبب للمرض عند بلوغه لأميركا وأوروبا.