يمثل نظام القنانة الذي انتشر بالإمبراطورية الروسية على مدار قرون، قبل أن يجهض عام 1861، أحد أشكال العبودية. وقد تطور هذا النوع من الرق خلال العصور الوسطى.
وبموجبه، وجد الفلاحون أنفسهم في وضع اجتماعي واقتصادي سيئ في ظل الإقطاع، حيث كان القن مجبراً على العمل بحقول ملاك الأراضي مقابل جملة من الحقوق البسيطة كالحماية والعدالة والحق في زراعة حقول معينة داخل القصر للحفاظ على الكفاف.
من ناحية أخرى، لم يقتصر عمل الأقنان على الحقول فقط حيث أجبروا أيضاً على التواجد بالمناجم والغابات حيث تحمّلوا أعمالاً شاقة أخرى.
أزمة نظام القنانة
ما بين القرن 17 ومنتصف القرن 19، ارتبط الأقنان الروس بشكل وثيق بالأراضي حيث كان ممكناً بيعهم وشراؤهم مع الحقول التي عملوا بها، فصنّفوا بذلك كنوع من الممتلكات الخاصة لصاحب الأرض. وعلى إثر الحملة العسكرية النابليونية على روسيا سنة 1812، امتد جانب هام من أفكار الثورة الفرنسية، التي نادت بالمساواة والحرية واحترام حقوق الإنسان، نحو الأراضي الروسية ووضعت بذلك نظام القنانة على المحك.
ومنذ توليه لعرش روسيا عام 1825 خلفاً لألكسندر الأول، حمل القيصر الروسي نيقولا الأول (Nicholas I) على عاتقه مهمة إنهاء نظام القنانة بالبلاد. وطيلة فترة حكمه التي امتدت لحدود عام 1855، وضع 9 لجنات لدراسة إمكانية إلغاء نظام القنانة بالبلاد وتبعات هذا القرار.
كما وصف مرات عدة نظام القنانة ببرميل البارود القابع تحت روسيا، مؤكداً أن الوضع سينفجر بالبلاد في حال عدم إنهاء العمل به بطرق ملائمة تحفظ كرامة وحقوق الجميع.
حرية بدون أراض
يوم 2 مارس 1855، توفي نيقولا الأول تاركاً مهمة وضع حد لنظام القنانة لابنه ألكسندر الثاني الذي استلم العرش في ظروف صعبة حيث خاضت الإمبراطورية الروسية حينها حرب القرم التي وضعتها وجها لوجه ضد التقدم التكنولوجي العسكري للبريطانيين والفرنسيين.
وعلى إثر الهزيمة المذلّة بحرب القرم، قرر القيصر الروسي الجديد ألكسندر الثاني القطع مع السابق وإرساء جملة من الإصلاحات بروسيا لجعلها شبيهة بدول أوروبا الغربية التي أجهضت العبودية منذ سنوات. وتزامناً مع وفاة والده نيقولا الأول، تواجد بروسيا 50 مليون فلاح، من بين 60 مليون إنسان عاشوا بروسيا حينها، كان ربعهم من الأقنان. من ناحية أخرى، واجه مالكو الأراضي أزمات مالية متتالية بسبب رهن جانب هام من ممتلكاتهم للدولة والنبلاء. وأمام هذا الوضع، عارض أصحاب الأراضي بشكل قاطع الإصلاحات الرامية لإنهاء القنانة مؤكدين أنها ستتعارض مع مصالحهم.
سنة 1857، وضع ألكسندر الثاني برنامجاً لإجهاض القنانة قوبل برفض شديد من أصحاب الأراضي. وأمام هذا الوضع، عدّل الإمبراطور الروسي إصلاحاته لتتلاءم مع تطلعات مالكي الأراضي، معلناً يوم 3 مارس 1861 نهاية القنانة ليجد بذلك ملايين الأقنان السابقين أنفسهم أحراراً وبدون أراض.
تسرّع في إجهاض القنانة
ولتجاوز أزمة تشرد ملايين الأشخاص، حصل الأقنان المحررون لاحقاً على قطع أراضي صغيرة اشترتها الدولة من أصحابها. وتزامناً مع هذا الإجراء، لجأ ألكسندر الثاني لإجراء آخر أثار استياء الجميع حيث وافقت الدولة على تأجير هذه الأراضي، ذات التربة الرديئة، للأقنان المحررين مقابل فوائد سنوية بلغت 5.6% وأجبرتهم على إمضاء عقود بعدم تأجير أو بيع هذه الأراضي التي حصلوا عليها لمدة 49 عاماً.
من جهة أخرى، وعد القيصر بمنح تعويضات مالية لمالكي الأراضي السابقين عقب تحرير الأقنان. وبينما قدّر ثمن الأقنان المحررين بنحو 900 مليون روبل، وفّرت الإمبراطورية الروسية مبلغاً بلغ بالكاد 315 مليون روبل فقط مثيرة بذلك سخط وغضب مالكي الأراضي.
استبدال عبودية بعبودية أخرى
عقب إقرار إصلاحات القيصر التي أجهضت القنانة، اجتاحت الاحتجاجات أوساط الفلاحين الروس حيث احتج الأقنان المحررون على هذا الإصلاح واتهموا ألكسندر الثاني باستبدال عبوديتهم السابقة بعبودية جديدة أكثر بشاعة. وبعد شهر واحد فقط عن نهاية القنانة، عاشت 29 محافظة روسية على وقع احتجاجات عارمة أرسل الجيش الروسي لقمعها بالحديد والنار.
وسنة 1861، أحصى الروس 1176 أحداث شغب ارتبطت بإجهاض القنانة. وسنة 1863، ارتفع العدد ليبلغ الألفين أرسل الجيش لقمع 700 منها.
الأقنان والثورة الروسية
بسبب إنهاء نظام القنانة، تحوّل عدد هام من النبلاء وأصحاب الأراضي السابقين لفقراء مع بداية القرن العشرين. كما لجأ الأقنان السابقون المحررون لمغادرة الأراضي الفلاحية والرحيل نحو المدن بحثاً عن فرص حياة أفضل بسبب تدهور وضعهم المادي حيث أثقلت الفوائد والضرائب، التي فرضتها الدولة سابقاً، كاهلهم.
وبالمدن الروسية، تحوّل هؤلاء الأقنان السابقون لطبقة العمال الذين عملوا بالمصانع وعارضوا النظام القيصري والتحقوا بشكل سريع بالتيارات الشيوعية والعمالية التي أطاحت بالنظام الروسي في خضم الحرب العالمية الأولى عقب تدهور حالتها.
إلى ذلك عرف القيصر ألكسندر الثاني نهاية مأساوية عام 1881 حيث اغتيل عقب هجوم اتهمت منظمة نارودنايا فوليا (Narodnaya Volya) بارتكابه.