التشكيلية الجزائرية باية محيي الدين، الفتاة الريفية القادمة من إحدى قبائل الجزائر، لم تدخل مدرسة في حياتها لكن موهبته بالرسم نقلتها من عاملة صغيرة في مزرعة يملكها أحد المستعمرين، إلى مكانة عالمية مرموقة، لتصبح باية ظاهرة سريالية فريدة من نوعها، وواحدة من أشهر رسامات باريس فاستطاعت بلوحاتها أن تأسر قلوب الأوربيين، وجعلت الفنان العالمي بيكاسو، يتحمس لموهبتها ويلقنها أسرار الفن التشكيلي لعدة أشهر، وقبل ذلك تأثر بفنها الذي يحمل سحر الروح الشرقية، فرسم بيكاسو من وحيها لوحته الشهيرة "نساء الجزائر" في 1955، لتباع في مزادات "كريستيز" في نيويورك عام 2015 بـ 179 مليون دولار لتصبح بذلك أغلى لوحة في العالم.
من الريف الجزائري إلى عاصمة النور
وتساءل كثير من الكتاب والمتتبعين لحركة الفن التشكيلي في العالم عن سرّ لمعان نجم هذه التشكيلية التي سطعت في سماء الغرب، فقد جاءت من الريف الجزائري إلى عاصمة النور على استحياء، ليستضيفها بيكاسو في مرسمه شهوراً عدة ليعلمها تقنيات الرسم، لكنه كان مولعاً بأعمالها النحتية، لتنتج لوحات فنية باتت من أثمن المقتنيات في أشهر متاحف العالم. فقد عملت باية إلى جانب بيكاسو، بين عامي 1948 و1952، وتناولت الكسكس معه. فقال عنها بيكاسو إنها كانت مصدر إلهام سلسلة رسوماته عام 1954 التي حملت اسم "نساء الجزائر". وقد نالت لوحتها التي تحمل اسم "امرأة وعصفور في القفص" شهرة واسعة.
مجموعة الفن الساذج محفوظة في أشهر متاحف العالم
وحصدت باية شهرة واسعة في أوروبا خاصة فرنسا وإيطاليا حتى بعد وفاتها، إلا أن ذات الصيت لم يأخذ حقه في الوطن العربي، على خلفية أن العديد من أعمالها مازالت محفوظة في مجموعة الفن الساذج بـ"لوزان" السويسرية. وحسب الكاتبة المغربية فاطمة بودريش، فإن باية أو "فاطمة حداد" اسمها العائلي قبل زواجها، ولدت بالعاصمة عام 1931، رغم أصولها الأمازيغية حيث تنحدر من منطقة القبائل، تربت يتيمة الوالدين وعكفت على رعايتها جدتها، وكانت تصطحبها لدى معمرة فرنسية تشتغل لديها، تنبهت صاحبة المزرعة "مارغريت كامينة" لموهبة هذه الفتاة الفطرية في تشكيل تماثيل صغيرة من الطين ل”حيوانات” وشخصيات نسجتها من خيالها، فشجعتها وقدمت لها أدوات للرسم من أقلام وألوان تراها لأول مرة، وبذلك فتحت لها الأبواب لتطل على عالم الفن التشكيلي الباهر.
أم بالتبني أطلقت عليها اسم باية الرسم الجزائري
فقد باية والديها في سنواتها الأولى فتكفلت جدتها بتربيتها وكانت تصطحبها معها إلى مكان عملها في مزرعة أحد المستعمرين الفرنسيين. مارغريت كامينا هي أخت صاحب المزرعة وهي المرأة التي يعود إليها الفضل في اكتشاف موهبة الطفلة ذات الثانية عشرة. حين رأت مارغريت وهي فنانة الطفلة وهي تصنع من الطين تحفاً صغيرة أدهشتها تلك الموهبة اللافتة فقررت أن تهتم بها.
لشدة إعجاب مارغريت برسوم الفتاة التي صارت ابنتها بالتبني، أطلقت عليها اسم باية الذي حل محل اسمها الحقيقي. باية هو مؤنث باي، وهو الوالي باللغة التركية. كانت الفنانة الفرنسية تتوسم في فتاتها أن تكون باية الرسم الجزائري.
تزوجت موسيقاراً.. وأوقفت إبداعها خلال ثورة التحرير ضد المستعمر الفرنسي
وكانت باية، قد حظيت بعد ذلك باهتمام النحات الفرنسي "جون بيريساك"، الذي عرض رسوماتها على "أيمي مايغت" تاجر التحف الفنية ومؤلف ومنتج أفلام معروف شهير، وأخذت أعمالها الإبداعية وريشتها الفنية بالانتشار بعد عرضها على الفرنسيين عام 1947، حيث أبدوا إعجابا كبيرا بما تقدمه، وتناولها النقاد بالثناء والتشجيع وتلقت عرضا بعد لقائها الفنان العالمي بابلو بيكاسو ليعلمها مبادئ الرسم، وبقيت إلى جنبه لمدة أشهر ونهلت كثيرا من تقنياته، فتناقل الإعلام صورها وأعمالها، والتقت في تلك المرحلة بالتشكيلي جورج براك" أحد مؤسسي المدرسة التكعيبية واحتكت بروح إبداعاته، علما أن باية تزوجت من الموسيقار الجزائري الأندلسي الحاج محفوظ محيي الدين، وأوقفت مسارها الإبداعي خلال ثورة التحرير ضد المستعمر الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي. رحلت باية محيي الدين أو فاطمة حداد يوم 9 نوفمبر 1998 تاركة وراءها أعمالاً ترتبط بعرفان أبرز عباقرة المدارس التشكيلية في العالم. لكن الوطن العربي مازال لم يتذوق فنها.
احتفاء عربي بـ 70 لوحة فنية من أعمالها
إلى ذلك، كانت هيئة الشارقة للمتاحف العام الماضي 2021، قد احتفت بأعمال باية محيي الدين (1931-1998)، ، وعرضت 70 لوحة للرسّامة الجزائرية واسمها الحقيقي، فاطمة حدّاد، التي ارتبط اسمها بما يُسمّى الفن الفطري أو الفن الساذج، ضمن معرض استعادي نادر وعظيم الخصوصية التشكيلية في الشارقة.