ما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، عرفت جمهورية فلورنسا الإيطالية أوج عطائها الفني والحضاري للتراث الإنساني. فبعيداً عن أهوال فترة حكم الراهب جيرولامو سافونارولا الذي أحرق عام 1498، شهدت فلورنسا أثناء عهد عائلة ميديشي ظهور العديد من العباقرة كان أشهرهم الرسام ساندرو بوتيتشيلي، صاحب لوحة ولادة فينوس، والعالم الموسوعي ليوناردو دا فينشي.
وإضافة لهذه الشخصيات البارزة، عرفت جمهورية فلورنسا خلال نفس الفترة ظهور شخصية الكاتب والدبلوماسي نيكولو مكيافيلي الذي سرعان ما ارتبط اسمه بالشر بسبب كتاب "الأمير" الذي أهداه للورينزو دي بييرو دي ميديشي.
بداية مكيافيلي
ولد نيكولو مكيافيلي يوم 3 مايو 1469 بحي أولترارنو بمدينة فلورنسا لعائلة مرموقة حصل أفرادها على مناصب هامة في ظل سلطة آل ميديشي حيث كان والده برناردو دي نيكولو مكيافيلي محامياً مشهوراً آمن بأهمية العلم واتجه لجمع أعداد كبيرة من الكتب بمكتبة منزله.
ومنذ صغره، أقبل نيكولو مكيافيلي على مكتبة والده، فطالع الكثير حول التاريخ والجغرافيا ليصنف حسب كثيرين كنابغة وعبقري عصامي التكوين. كما درس لاحقاً العلوم الإنسانية واللاتينية قبل أن يدخل الحياة السياسية من أوسع أبوابها عقب إزاحة آل ميديتشي سنة 1494 بثورة شعبية ألقت بفلورنسا في أحضان الراهب سافونارولا الذي وعد بتحويلها لمدينة دينية وجعلها قدساً جديدة عن طريق إزالة اللوحات الفنية والمنحوتات الموجودة بها.
خدمات مكيافيلي لفلورنسا
بعد نحو 4 سنوات، حل الدور على سافونارولا فجرد من سلطته وأعدم حرقاً أمام الملأ يوم 23 مايو 1498. وعقب هذا التغيير، مال مكيافيلي لجمهورية شعبية بفلورنسا وتجنب نظام جمهورية الأمراء السابقة التي قاد من خلالها آل ميديشي المدينة. ويوم 19 يونيو 1498، تقلّد نيكولو مكيافيلي منصب سكرتير بالمستشارية الثانية في فلورنسا وهو المنصب الذي يشبه إلى حد ما منصب وزير الخارجية في عصرنا الحالي.
وأثناء مسيرته التي استمرت لنحو 14 عاماً بهذا المنصب، أنقذ مكيافيلي فلورنسا لأكثر من مرة، فأقنع سنة 1502 تشيزري بورجيا بتغيير مسار حملته العسكرية والابتعاد عن فلورنسا. كما دعا مسؤولي المدينة لتكوين جيش دائم وقار لمواجهة تهديدات بيزا ووضع حد لتهديداتها، وهو الأمر الذي تحقق في يونيو 1509.
مطلوب للعدالة ونهاية الحياة السياسية
مع عودة آل ميديشي مجدداً لفلورنسا بدعم من البابا يوليوس الثاني عام 1512، أقصي مكيافيلي من منصبه قبل أن يتحول لمطلوب للعدالة عقب اتهامه بالتآمر على آل ميديشي. ومع اعتقاله، أرسل نحو دهاليز قصر بارجيلو حيث تعرض لأنواع عدة من أساليب التعذيب، كانت أهمها التعليق من اليدين.
وبحلول مارس 1513، نال مكيافيلي على عفو رسمي من عائلة ميديشي عقب حصول ليو العاشر، المنحدر من عائلة ميديشي، على لقب البابا. وفي مقابل هذا العفو، تعهد مكيافيلي بالابتعاد نهائياً عن الحياة السياسية وعدم التدخل في شؤون فلورنسا مستقبلاً.
كتاب الأمير
خلال الفترة التالية، انتقل مكيافيلي نحو المزارع المملوكة لعائلته حيث عمل مع بقية أقربائه على إنتاج أنواع جيدة من زيت الزيتون. وافتقد مكيافيلي وظيفته السابقة فاتجه لتأليف كتابه الشهير "الأمير" الذي أهداه للورينزو دي بييرو دي ميديشي لإثبات دهائه السياسي ورغبته في الحصول على منصب سياسي جديد. كما قدّم نصائح للورينزو، ساهمت في ظهور مصطلح المكيافيلية، حول طريقة الحكم وبلوغ الغاية السياسية، حيث قدم له مصطلحات عدة مثل "الغاية تبرر الوسيلة" و"من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك".
إلى ذلك، لم يكن كل هذا كافياً لإعادة نيكولو مكيافيلي لمنصبه حيث احتاط آل ميديشي منه ومن سياسته ليفارق بذلك هذا الدبلوماسي الحياة بعيداً عن المناصب السياسية يوم 21 يونيو 1527 عن عمر يناهز 58 عاماً.