مبدعات يمنيات يروين بالفن مأساة 4 ملايين من ذوي الهمم

أكثر من 4 ملايين شخص من ذوي الهمم يعيشون تحت أنقاض المعاناة، يواجهون الإقصاء والتهميش في البلد الحزين الذي يكابد وجع الحرب مع أسوأ أزمة إنسانية في العالم.

فمن وسط دخان الدمار، تخرج مبدعات يمنيات، يجسدن بالفن والأداء والإبداع وجع بلاد نهشتها الصراعات، ويحاصرها الموت من كل الجهات، شغلن بمحاولات إطفاء نيران الجبهات، برسائل تحدٍ تشع من وسط الركام.

يحملن قصص الإبداع إلى الإنسانية، تأتيهن فرصاً لتحقيق الذات ورفع المعنويات، لكن ما يشغل همومهن حقاً هو إيجاد مصدر رزق لإعادة ترميم تصدعات الحال بحثاً عن بصيص أمان مادي يستندن عليه تحت سقف كرامة.

من أسوار الحصار إلى منصات الاحتفاء

"العربية.نت" تقلب صفحات بطلات يمنيات من ذوي الهمم، يبتسمن للحياة على طريقتهن، يرفعن أصواتهن في زمن الحرب، ليعبرن بالرسم والصوت والفن عن آمالهن التي كبلها الألم وراء قضبان الحصار، يرسمن خارطة جديدة لأحلام الكثير من اليمنيات اللواتي يقودهن العجز على كراسٍ متحركة، يجترحن بأناملهن ألواناً تهزم الظلام في بلاد أنهكتها أشباح الخوف وكوابيس الخراب.

يصنعن بالريشة نشيداً وطنياً جديداً لليمن، تعبيراً عن وجع الرفض لكل أشكال القمع والتجاهل الذي فرضته سطوة الصراعات وتكالب الظروف وجرعات الفقر المتوالية.

شابات في عمر الورد، يملكن أحاسيساً تختزل طيبة شعب بكامله، ويملكن في المقابل قوة روحية هائلة تهزم الإعاقة بإرادة ناعمة، يحطمن قيود العجز أمام أنظار الإنسانية، ليحولن أسوار الحصار إلى منصات احتفاء وواحة فنون وعوالم سلام.

يدركن أن الاستسلام أمام مصير مظلم فرضته آلات الدمار، لا يولد إلا مزيداً من الألم الخيبات، وأنه لا يمكن مواجهة الموت إلا بالحب، وأن السلاح الحقيقي يكمن في الإبداع بوصفه لغة سلام.

ترسم بيد واحدة تصف للعالم وجع اليمن كله

عينيها مثبتة على الأفق، وساقاها تتعكزان عربة إلا أنها تنظر بثقة إلى أبعد ما تراه عين مجردة.. آسيا الذبحاني، 26 عاماً، ولدت مكبلة بقيود حركية، من بينها التقزم والشلل النصفي، لكنها عرفت منذ الصغر كيف تحطم تلك القيود، وتحولها إلى فن يحررها من قبضة المعاناة.

كرست وقتها في تنمية شغفها بحب الرسم ولجأت إلى تكوين صداقة مع الألوان، فاستطاعت آسيا أن ترسم بيد واحدة، لتنتج إبداعات فنية أذهلت كل محيطها.

لوحات آسيا قدمت للعالم صورة عن معاناة البلد الحزين، يقف المتفرج أمام بهاء ألوانها ليقرأ كل خذلانات العالم دفعة واحدة، وكأن عاطفة آسيا تمثل وجع اليمن كله.

فرص معنوية ومصدر رزق

آسيا تقول إنها لم تولد فنانة، بل إنسانة حقيقية، درست وتعلمت وأكملت الثانوية، ثم قررت تعلم الرسم عبر دورات منتظمة عن بٌعد، ليقودها حب الاستكشاف إلى تطوير هوايتها من خلال تلقي دروس مكثفة في الرسم عبر اليوتيوب الذي فتح لها باباً إلى فضاء إبداعي أكثر إلهاماً وانفتاحاً.
ثم قررت الالتحاق بدورة فنية بدعم "المؤسسة العربية لحقوق الإنسان"، لمساعدة ذوي الهمم لمنحهم فرصة اقتصادية معنوية تكون بمثابة مصدر رزق، تحقق لهن استقلالاً مادياً يعنيهن على توفير أبسط متطلبات عيش كريم.

فتنتج آسيا بعدها أعمالاً، يتم عرضها ضمن معرض خاص هو الأول في مشوراها، لتتفاجىء بإطراءات الناس ودعم الكثيرين لموهبتها الفطرية. وعلى الرغم من أن آسيا تعاني مثل آلاف من ذوي الهمم في اليمن، يرتطم بهن الحال أمام حواجز مادية ونفسية، نتيجة ضعف موارد وقلة حيلة في نشر إبداعاتهن الخاصة، فضلاً عن وجود تهميش واضح يحبط معنوياتهن، إلى جانب عدم الإيمان بقيمتهن وتأثيرهن في المجتمع، أو وفق ما تقوله كوثر الذبحاني شقيقة آسيا:"لا توجد في اليمن ثقافة مجتمعية حقيقية وبيئة حاضنة لذوي الهمم".

تقصف القبح بالرسم وترد الإهانة بصفعة فنية

قصة أخرى بطلتها شابة يمنية تركت اليمن، تعيش حاليا في مدينة بليموث البريطانية، دعاء شايع، 21 عاماً، تحت ظلال الماكياج، تحاول دعاء أن تخفي مأساتها بالرسوم والكلمات، لكنها تحمل أيضاً هموم بلاد شوهتها الحروب وخرمشت وجهها الحضاري وأصابتها بالعمى.

دعاء شابة يمنية من ذوي الهمم، ولدت بمرض شلل شوكي، أرادت أن تلفت أنظار العالم إلى مأساتها، فحولتها إلى بهجة بصرية، لتقصف القبح بالرسم، وترد الإهانة بصفعة فنية، فقررت دعاء أن تحول صفحاتها على "سوشيال ميديا" إلى معركة صراع ضد القسوة التي يتلقاها ذوو الهمم في اليمن.

وفي كل مكان وبلاد أيضاً، فجعلت وجهها أشبه بلوحة مفتوحة بكل اللغات، رسمت عليه نماذج من تلك الكلمات التي تحطم كيان أي فتاة طبيعية، فما بالكم إذا كانت من ذوي الهمم، وكتبت تعبيرات مؤذية على شاكلة "مشوهة.. قبيحة، متخلفة عقلياً- معاقة"، وكلما تلقت إهانة جديدة كانت ترسم وقعها على ملامحها.

أضرار روحية وجروح أنثوية بالغة

دعاء شايع، المولودة في اليمن، كانت تستخدم في طفولتها عكازين، وفي العاشرة من عمرها، استبدلتهما بكرسي متحرك، استطاعت أن تدفن أعراض مرضها تحت غبار الماكياج، لكنه إخفاء معنوي وفق ما تقوله دعاء، التي تريد أن تنقل للمجتمعات أن هناك أضرارا روحية وجروحاً أنثوية بالغة تكمن خلف ذلك المكياج، معتبرة بأنه مجرد قناع يخفي الوجه الحقيقي للمأساة، بسبب بشاعة السخرية وفداحة الإيذاء النفسي الذي تتعرض له فتاة من ذوي الهمم.

وتشير دعاء أن أقسى موقف عايشته لا يزال يشكل ندبة في قلبها وذهنها، تقول: "صادفني شخص على الحافلة، وكان ينظرإلي وعيناه ترمقني بشفقة، ليخبرني بكلمات قليلة وكانه يقول: كم تبدين جميلة لكن هذا الكرسي المتحرك اللعين يحجب النظر إلى جمالك، فبمجرد أن يقع النظر عليه تختفين أنت من المشهد مهما بلغت من جمال وجاذبية".

ترسم بأصابع قدميها بإبداع يطير خارج أسوار الحصار

مبدعة يمنية أخرى، تقبل التحدي بإرادة متوثبة، عاشت رشا الحيسان، طفولة مقهورة بسبب فقدان يديها منذ ولادتها، فظلت جامدة بلا حركة، لا تستطيع أن تأكل أو تشرب مثل غيرها من الأطفال، فقد حرمتها من دخول المدرسة حتى مرحلة متأخرة، لكنها لم تستسلم لعجزها بل قررت أن تعلم الكتابة بقدميها، لتكتشف موهبتها في الرسم.

الفتاة الصغيرة يتيمة الأب، نشأت في صنعاء مع والدتها وأربعة إخوة وأخت، ثم تأثرت بشقيقها الأكبر الذي ألهمها في فن الرسم ثم سرعان ما غادر اليمن بحثاً عن الرزق، وكانت متأثرة أيضاً برسوم الكرتون على صفحات مجلات.

استطاعت في مرحلة الابتدائية أن تذهل مدرسيها برسومات مبدعة، مستخدمة قدميها فقط، لتتطور بعدها موهبة رشا أكثر، ويتم تكريمها في مناسبات ثقافية مختلفة بالعاصمة اليمنية.

وتماماً مثل رفيقاتها المبدعات من ذوي الهمم، احتوتها المؤسسة العربية لحقوق الإنسان بصنعاء، لتمنحها في العام 2020 فرصة تطوير مواهبتها بدورات تدريبية مكثفة، اغتنمتها رشا لتنتقل بإبداعها من مرحلة الخطوط إلى رسم العوالم والوجوه والمخلوقات والطبيعة.

وكانت أولى بهجاتها الملونة لوحة رسمت فيها طفلاٍ يتلمس الأرض وهو يحبو بينما يلتمع الفرح في عينيه، وبعد نشر تلك اللوحة، طلب مقتنٍ شراءها، وشعرت رشا أن رسوماتها أصبح لها أجنحة تتخطى الحصار وألوانها عصافير طليقة تطير خارج الحدود.

لوحات تتحدى الحصار تنقل للإنسانية معاناة ذوي الهمم

قطعت رشا، 19عاماً، أشواطاً من العجز، باتت اليوم تسير في خط فني يميزها لتجتذب رسوماتها الكثير من المقتنين في بلدان مختلفة، خاصة عندما يكتشفون إنها رُسمت بأصابع قدميها، وتتمنى في كل يوم أن تقدم للأمم المتحدة لوحة مرسومة بأصابع قدميها تشكو إليهم مأساة 4 مليون يمني من ذوو الهمم.

ولوحة ثانية تعبر بها للإنسانية عن وجع شعب جاثم تحت خط الفقر، لا تدخر رشا فرصة إلا واستثمرتها في تجسيد معاناة بلدها، كما لا تتردد أيضاً بالمشاركة في معارض محلية لنشر إبداعات ذوي الهمم وتعريف العالم بما تعانيه هؤلاء المبدعات وما تحمله ألوانهن من رؤى ورسائل سلام تعكس قوى أنثوية تتحدى غبار الدمار، وإرادة تنتصر للحياة وتخرج من بين ركام الحروب.

Original Article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: