يحل عيد الأم ثقيلاً على الآلاف من الأمهات اللبنانيات حيث ضاقت سبل العيش أمام أبنائهن وبناتهن ودفعتهم إلى مغادرة بلد يتخبط في أسوأ أزماته الاقتصادية والمعيشية منذ عقود، بحثاً عن أوطان بديلة.
وليست ظاهرة الاغتراب والهجرة جديدة على اللبنانيين الذين عهدوا موجات كبرى من الهجرة منذ القرن التاسع عشر، أي قبل الجمهورية اللبنانية بشكلها الحالي، حيث اعتاد أهل هذا البلد على السفر الطويل لأبنائهم بحثاً عن العمل أو الدراسة أو الاستقرار النهائي في مختلف دول العالم، على أمل اكتشاف مقومات حياة أفضل يفتقرون إليها في بلدهم الأم.
ويحتفل لبنان، كما في غالبية دول العالم العربي، بعيد الأم في 21 مارس/آذار، لكنه هذه السنة يحل موجعاً على العديد من الأمهات اللبنانيات الحائرات ما بين عاطفتهن تجاه أبنائهن، وبين رغبتهن بأن تحقق فلذات الأكباد طموحاتهم ولو خارج وطنهم، ما يدفع بعضهن إلى التحسر بالقول إنهن يشعرن كمن أنجب الأبناء من أجل الاغتراب، وليس من أجل خدمة الوطن.
وسيكون عيد الأم هذه السنة حزيناً بالنسبة للأمهات اللواتي حرمن من دفء القرب من أولادهن في عيد كن يتلقين فيه عادةً باقات الورود والهدايا ويكون مناسبة سعيدة لجمع شمل أفراد العائلة حول الولائم والحلويات. وسيكتفي العديد من الأمهات بمتابعة أفلام عربية شهيرة اعتادت قنوات التلفزيون المحلية والعربية بثها سنوياً في عيد الأم، من بينها "أعز الحبايب" و"إمبراطورية ميم" و"لا تسألني من أنا".
وتقول رولا الحاج (52 عاماً) وقد ودّعت بناتها الاثنتين، إحداهما من أجل العمل والثانية من أجل الدراسة في الخارج، إن "الوضع الطبيعي هو أن تربي أولادك إلى أن يكبروا ويظلوا إلى جانبك، لكن منذ زمن طويل في لبنان، هذا الأمر لم يعد قائماً، فنحن نربيهم ونعلمهم وفي نهاية المطاف نحزم حقائبهم، ثم نودعهم".
من غير الواضح بشكل رسمي حتى الآن حجم الهجرة اللبنانية الجارية، لكن الخبراء والباحثين يقدرونها بعشرات الآلاف وهي اتخذت منحى متصاعداً خلال الأعوام القليلة الماضية، بعد بدء تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي، ثم انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020، ثم تخفيف إجراءات وقيود السفر حول العالم في ظل وباء كورونا.
ويقول الباحث محمد شمس الدين، من شركة "الدولية للمعلومات" المتخصصة بالإحصاءات والدراسات: "نرى خلال السنوات الخمس الماضية ارتفاعاً كبيراً بأعداد المهاجرين والمسافرين حيث بلغ 18863 في العام 2017 وارتفع إلى 33129 في العام 2018، لكنه تضاعف ووصل إلى 66806 في العام 2019" وهي السنة التي شهدت تفجر الاحتجاجات الشعبية ضد سوء الإدارة والحكم في البلاد، وتبعها انهيار الليرة وتسريح عشرات الآلاف من الموظفين وتجميد البنوك لودائع المواطنين.
أما خلال العام 2020، فتراجعت أعداد المهاجرين والمسافرين نتيجة ظهور كورونا وإغلاق مطار بيروت وعوامل أخرى حيث وصل العدد إلى 17721 مسافر ومهاجر. لكن شمس الدين يلحظ أن الهجرة عادت لتتزايد بقوة في العام 2021 حيث بلغ العدد 79134، معرباً عن اعتقاده بأن الأعداد خلال العام 2022 سوف تكون أعلى.
من جهتها، تقول رولا حول سفر ابنتيها: "هذه ليست السنة الأولى وإنما الثانية (التي تقضي فيها عيد الأم بعيدة عنهما). لا وظيفة ولا مستقبل هنا لهما. كنت أتمنى لو أنهما هنا من أجل سعادتنا سوية، لكن النظام السائد في لبنان هو أن الشخص المدعوم أو التابع لزعيم هو القادر فقط على إيجاد فرصة عمل".
ويحذر شمس الدين من أنه خلال السنوات الخمس الأخيرة "هاجر وسافر نحو 215653 لبناني ولبنانية، وأن غالبية المهاجرين والمسافرين هدفهم العمل، و70% منهم هم من الفئات الشابة ما بين 25 و40 سنة، وهم بالتالي لو كانوا في لبنان لكانت معدلات البطالة سترتفع إلى أكثر من 46%، ولهذا فإن الهجرة هي وسيلة لامتصاص البطالة وتوفير فرص عمل للبنانيين" المستمرين في البقاء بلبنان.
من الصعب على الأمهات اللبنانيات تقبّل مثل هذه التقديرات مهما كانت صحيحة. وتقول رولا بمرارة إنه "في ظل الوضع الحالي في لبنان، فإنني أفضّل أن تكون ابنتيّ بعيداً عن هنا، أولاً لتنعما بحياة طبيعية، وثانياً ليكون أمامهما أمل بتحقيق ما تصبوان إليه".