عقب معركة كورسك خلال صيف عام 1943، خسرت الفيرماخت (Wehrmacht)، أي القوات المسلحة الموحدة لألمانيا، تقدمها على الجبهة الشرقية لتبدأ بشكل سريع عملية تراجعها نحو الغرب أمام تقدم الجيش الأحمر السوفيتي. وفي خضم هذه المعركة التي حشد لها الطرفان أكثر من 10 آلاف دبابة ونحو 3.5 مليون جندي، أصدرت القيادة العسكرية الألمانية أوامرها ببناء خط دفاعي محصّن يمتد من البلطيق نحو بحر آزوف (Azov) لصد أي تقدم محتمل للجيش الأحمر. إلى ذلك، لقّب هذا الخط الدفاعي، الذي كان أشبه بخط هيندنبورغ بالحرب العالمية الأولى، بالجدار الشرقي ووصفه هتلر بالجدار الذي سيحمي أوروبا من البلشفية.
سباق حول النهر
في الأثناء، مثّل نهر دنيبر (Dniepr) أحد أهم عناصر نجاح هذه الخطة الألمانية حيث اعتبر الأخير أبرز أنهار الاتحاد السوفيتي حينها بسبب امتداده على نحو 2290 كلم وعبوره لأراضي كل من روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا. وفي حال حصولهم على نهر دنيبر وتشييدهم لدفاعات على ضفافه، سيعزز الألمان من حظوظهم في وقف التقدم السوفيتي حيث سيضطر الجيش الأحمر حينها لمواجهة مياه النهر والتضاريس المحيطة به إضافة للدفاعات الألمانية المركّزة حوله.
إلى ذلك، كانت القيادة العسكرية السوفيتية على دراية مطلقة بخطورة الوضع في حال تشييد الألمان لدفاعتهم حول ضفاف نهر دنيبر. ولهذا السبب أمر القادة العسكريون السوفيت بالإسراع بحسم معركة كورسك والتقدم على جناح السرعة نحو هذا النهر.
وعقب مضي 3 أيام فقط عن نهاية معركة كورسك، أطلق الجيش الأحمر يوم 26 آب/أغسطس 1943 هجوما واسعا على طول الخط الممتد بين سمولنسك وآزوف، أكثر من 1000 كلم، أملا في بلوغ نهر دنيبر وإفشال المخطط الألماني عن طريق حرمانهم من تشييد دفاعات عند هذا النهر.
وفي خضم هذه الملحمة حول نهر دنيبر التي استمرت ما بين شهري آب/أغسطس وكانون الأول/ديسمبر 1943، كانت البشرية على موعد مع واحدة من أكبر المعارك بتاريخها حيث حشد الطرفان حوالي 4 ملايين جندي مدعومين بعشرات آلاف الدبابات وما يزيد عن 50 ألف قطعة مدفعية. وتزامنا مع التقدم السوفيتي، انسحب الألمان نحو الضفة الغربية من نهر دنيبر ونقلوا معهم بالقوة أعدادا كبيرة من السكان المحليين لإجبارهم على العمل بمصانع الأسلحة الألمانية التي أصبحت تعاني من نقص فادح في اليد العاملة.
700 ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى
أثناء عملية العبور نحو الجهة المقابلة من نهر دنيبر، حاول السوفيت الاعتماد على فرقة من المظليين تكونت من 4 آلاف عنصر. لكن لسوء حظ هذه الفرقة، وقع أفرادها بالجانب الألماني وقد أسفرت هذه الحادثة عن مقتل 3 آلاف فرد منهم.
إلى ذلك، لم يمتلك السوفيت خطة واضحة لاجتياز نهر دنيبر حيث لجأ جنود الجيش الأحمر لعبور النهر كلما وجدوا ثغرة. فضلا عن ذلك، عمدت بعض الفرق العسكرية السوفيتية لاعتماد التمويه عن طريق تكديس قواتها بمنطقة معينة لإيهام الألمان بوجود استعدادات للعبور. وفي المقابل، كانت عملية اجتياز النهر الحقيقية تحصل بموقع آخر يبعد عشرات الكيلومترات.
أثناء العملية، حشد السوفييت 5 جيوش ودافعوا بشراسة عن رؤوس الجسور والمواقع التي نزلوا بها بالضفة الغربية من نهر دنيبر.
وقد استمرت المعارك لأكثر من 3 أشهر وعرفت أوجها ما بين شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 1943. كما تزامنت هذه المواجهة عند نهر دنيبر مع خسائر ألمانية كبيرة قرب كييف.
وأواخر شهر كانون الأول/ديسمبر 1943، تمكّن الجيش السوفيتي من تحقيق النصر مجبرا الألمان على التراجع لتعرف بذلك خطة هتلر فشلا ذريعا. وقد أسفرت المعارك حينها عن مقتل 400 ألف جندي سوفيتي وإصابة مئات الآلاف الآخرين بينما تجاوز عدد القتلى الألمان عتبة 300 ألف. لاحقا، كرّم ستالين عددا كبيرا من الجنود المشاركين بمعركة دنيبر حيث نال 2438 فردا وسام بطل الاتحاد السوفيتي.