عندما تغوص في زحام المدن اليمنية، تخطفك تلك العبارات المكتوبة على المركبات المختلفة، التي يقودها سائقو باصات أو شاحنات سواءً العابرة منها أو الواقفة في إشارات المرور، تحمل صرخات مدوية كأنها بيان احتجاج مثل: "يكفينا حرب"، لماذا كتبوا علينا كل هذا القهر"، " لو كان للإنسانية أمّاً لكنا اشتكينا لها"، تتنوع الغصات المكتوبة بالدمع والدم، وتتلون الكلمات بمرارة الأزمات، لتصف حالات سحقها الفقر تارة، وتعكس فداحة الصراعات التي أدمت قلوب الآف العائلات، فتجسد هموماً شخصية وعاطفية وطموحات بسيطة لا تتحقق، مثل "زوجوه يعقل"، وقد تحمل طابع المواساة لأحوال تتشابه، "تعبنا سياسة".
أدب بفكاهة سوداء يكتبه المهمشون للتنفيس عن الكبت
غيداء علي، تقول إن الصحافة في اليمن أصبحت جريمة، فأغلب الصحفيين المناهضين أو المعارضين لمختلف أطراف النزاع مهددون بالتصفية أو السجون الانفرادية بتهمة التخريب وإشاعة الفتن، لهذا وجد كثيرون أن الكتابة على السيارات نوع من تنفيس الكبت وإفراغ مخزون الضغط النفسي والعاطفي، فيما يسمى سبورة شوارع أو أدب المهمشين الذي لا يخلو بالطبع من الدعابات السوداء.
صحافة المطحونيين الذين لا تدركهم أضواء ولا تلتقطهم عدسات إعلام
مؤخراً، تناقل ناشطون على سوشيال ميديا، كتابات عفوية ولدت من وجع اللحظة، يقول إبراهيم عزمان، إن تلك الكتابات لا تصنف أدباً، فليس من يكتبها شعراء أو مثقفون بل بسطاء ومهمشين، بينما يصفها نجيب الوائلي بأنها صحافة المطحونين، حيث إنها بحروف قليلة ومضامين مقتضبة تعادل رحلة في كتاب توثق يوميات الناس المتعبين الذين لا تدركهم الأضواء ولا تلتقطهم عدسات الإعلام.
من جهته يعتبر صدام الوادعي، أن الكتابة على المركبات، سلوك اجتماعي يعود إلى فترة الثمانينات، حيث أن غالبية السيارت لم تكن مصنفة مرورياً لذلك أبتكر اليمنيون مسميات بخط اليد للتعريف بوظائفها سواء للأجرة أو للنقل، وانفرد كثيرون بكتابة شعارات أو حكمة مفضلة في الحياة تيمناً بها أو تأثراً بكلماتها لإضفاء طابع من البهجة والتفاؤل على كل من يقرأها، أما اليوم فقد أصبحت تلك العبارات بمثابة حائط خصوصي.
ويرى عمار عبدالعليم الحمراني، أن الاشكال والتعبيرات تتغير وتتباين بحسب إيقاع الهمّ المجتمعي المشترك، لهذا تأتي عفوية، تخرق حواجز المسكوت عنه، متجاوزة كل وسائل الإعلام الرسمية، وصيغ البوستات في منصات "سوشيال ميديا"، محملة بصدقها من دون أن تحرض على عنف أو كراهية أو تغرد خارج قيم وتقاليد مجتمع، بل إنها تمثل إعلان مقاومة ضد أصناف الظلم الاقتصادي والسياسي.
إعلانات توبيخ ورسائل احتجاج ضد صانعي القرار
والواضح أن بعض الأقوال تحمل رسائل احتجاج ضد صانعي القرار، وذلك وفق ما يقوله محمد سلطان الأديمي، الذي لا يفوت قراءة تلك الجمل القصيرة على الباصات والشاحنات خاصة عندما ينتقل من مدينة إلى أخرى، ذلك إنها تلخص بحسبه حالة معاناة جمعية أو نمط سلوك مجتمعي سائد قد يكون مليئاً بالتفاؤل أو مصبوغاً بالسوداوية، مشيراً الى أن أكثر جملة حزينة أثرت به طبعت على خلفية باص، "ضاعت صنعاء بصرخة.. وضاعت عدن بصرفة" أي أن صنعاء تم السيطرة والاستحواذ عليها بشعار الصرخة، وعدن تم الاستيلاء على أهلها مقابل مصروف جيب"، إضافة إلى عبارات كثيرة ترفعها شاحنات كإعلان في الطريق العام "لا تسرق فحكومتنا تكره من ينافسها"، و"الوطن بحاجة لمخلص، وليس لمخ "لص".
تحذير شديد اللهجة والفكاهة: "يرجى عدم التفجير قرب الباص"
إلى ذلك، اعتبر عبدالوهاب الماوري، أن أكثر اللافتات تعبيراً وتأثيراً هي التي تختصر الوضع بكلمة أو بكلمتين ليسهل التقاطها وقراءاتها في لحظات خاطفة، فعلى سبيل المثال "هيا نهرب" يريد كاتبها أن يبحث عن ملاذ جديد للهجرة والاغتراب أو النزوح للهروب من عبء واقع قاس وحمولة هموم كاسرة للظهر بمشقاتها. وعلى هذا المنوال هناك عبارات تداولها كثيرون مثل: "هيا نجنن" دعوة لتغييب العقل والوعي ونسيان هذا الفجائع المتوالية التي لم تنته فصولها بعد.
وأبدع أحدهم عبارة في فن المواساة، تنطبق على حال ملايين اليمنيين، "مشي حالك لما تموت" تعبير ينم عن قناعة ورضا بما هو مكتوب دون سخط أو غيظ. ويمزح أحدهم محذراً: "يرجى عدم التفجير قرب الباص لأنه عاده دين" بمعني أن ثمن الباص لازال ديناً.
أكثر لافتة رائجة لامست وجدان اليمنيين
وقال عاطف علي إن أكثر لافتة رائجة كتبها شخص أو سائق سواء على جدار أو باص أو شاحنة، باتت منتشرة في مختلف مدن اليمن، هي عبارة "من سيخبر الشهداء بأن الطرفين قد سدو"، أي تصالحوا ونسيوا دماء ضحاياهم الذين كانوا مجرد وقوداً لحرب لا تكف عن التهام جثث أطفالها وشبابها المغرر بهم.
وفي السياق ذاته، هنالك أمثلة شعبية تم تحويرها لتعبر عن روح النكتة رغم سوداوية الظروف.. "الباب اللي تجي منه ريح خليه مفتوح الدنيا حمى" أي الدنيا تغلي بسبب حرائق الأسعار ونيران الصراعات.
"حبي لها" تتحدى المؤامرات والحروب
وقال عبدالناصر أحمد، إن اليمن ستظل حاضرة في قلب كل يمني، مهما تكالب عليها تجار المؤمرات والفتن وسماسرة الحروب، وسيظل الانتماء أرقى معاني ارتباط اليمني بطينته الأولى، وهو ما تنبض به عبارة "حبي لها رغم الظروف القاسية.. رغم المحن" مطبوعة على واجهة سيارة تاكسي.
وقال عصام غيلان، لقد وجدت في أحد شوارع محافظة عمران، عبارة كتبها صاحب سيارة تسعينية الموديل، "الحاصل ولا أمشي رجل" بمعنى لا تسخروا من سيارتي القديمة، فهي على الأقل أفضل من المشي على قدمين.
مهن دونية وتعصب مناطقي وتعايش عرقي منذ فجر التاريخ
ورغم أن المجتمع اليمني منذ فجر تاريخه متسامح ومتعايش مع كافة الأقليات مثل اليهود بمحافظة عمران والمسيحيين بعدن والطائفة الإسماعيلية في حراز وغيرهم، إلا أن الطبع القبلي والتعصب المناطقي لا يزال موجوداً ومتأصلاً في جذور الثقافة الاجتماعية ضد من يوصفون بـ "المزاينة" وهم أولئك الذين يعملون في مهن دونية مثل الجزار والحلاق والإسكافي، إلا أن كثير من اليمنيين يدركون بأن ذلك السلوك غير الحضاري على وشك الاندثار، تماماً كما يرفضون الارتهان لأي طائفة تعود بهم إلى عصور الظلام، وهنا إحدى تجلياتها، فهذا أحد "الجزارين" في منطقة السنينة بصنعاء كتب على سيارة دفع رباعي موديل 2020، "خلي المشيخة والقبيلة تنفعك" ودلالتها أن من يمتلك المادة هو سيد نفسه، وفي غنى عن أي شخصية مهما كانت مؤثرة ونافذة.
الفكاهة والدعابة: تسكين الوجع بالنكات
الفكاهة والدعابة، حسب مراد العلي، لا تغيب من وجدان شعب يتقن تسكين وجعه بالنكات، يريد أن يضحك على آلامه بالكلمات، وهنا سائق تاكسي كتب على خلفية سيارته: "انتبه التكسي سيقف حالاً". أما التعليم ومآسيه الذي لا يؤدي إلى وظائف مرموقة بل على العكس يقودهم إلى عمالة شاقة، فهذا سائق شاب ألصق عبارة على الميكرو باص الخاص به، تصف حال ملايين الشباب اليمنيين الذين تخرجوا من منصات الجامعات إلى شوارع البطالة: "هذه نهاية دراستي" عبارة يصفها مراد بأنها تجرح لمن يفهم.