في أبريل/نيسان عام 1906، غادر الأخوان مايلز الاستوديو الخاص بهم في مدينة سان فرانسيسكو على شارع ماركت ستريت، واستقلا إحدى العربات المنتشرة في المدينة، وصورا فيلمًا قصيرًا أصبح لاحقًا شهيرًا جدًا في عالم الأفلام الكلاسيكية القصيرة؛ واسمه ترب داون ماركت ستريت. ويوثق الفيلم طراز الحياة آنذاك: وفيه تسير العربة ببطء في الشارع، فيوجه الأخوان الكاميرا إلى الأمام لالتقاط مشهد لنساء يرتدين قبعات فكتورية مزخرفة وهن في عجلة من أمرهن. بالإضافة إلى مشهد لشرطي يتنزه حاملًا هراوته، ومشهد يظهر فيه باعة الجرائد في خضم أعمالهم اليومية، وسيارات كلاسيكية تسرع خطاها أمام العربات وبعضها مكشوف، ما يسمح برؤية من بداخلها.
وبعد عدة دقائق، يصل الأخوان إلى مفترق طرق حيث مبنى فيري وعليه ساعة توقفت عقاربها عند الساعة 5:12 صباحًا، وبعد أربعة أيام على ذلك التوقيت، ضرب سان فرانسيسكو زلزال قوي خلف حرائق تاريخية مدمرة أحدثت أضرارًا بالغة في المدينة.
واليوم وبعد أن مضى أكثر من قرن، حوّل خبير الذكاء الاصطناعي دينيس شيرياف الفيلم الكلاسيكي إلى قطعة فنية أكثر سحرًا. فاستخدم مجموعة متنوعة من الخوارزميات المتاحة على شبكة الإنترنت، ولوّن الفيلم وزاد دقته إلى 4 كيه، فضلًا عن أنه رفع معدل الأطر إلى 60 إطار في الثانية، فكانت النتيجة مذهلة، وتسنى لنا أخيرًا مشاهدة ألوان نابضة بالحياة على تلك القبعات الفكتورية المبهرجة. والأهم من ذلك، أننا نرى بتفاصيل غير مسبوقة المخلفات التي تركتها الأحصنة على سكك العربات.
يعمل دينس مديرًا للإنتاج في شركة نيورال.لاف، والتي تقدم خدمات تحسين الفيديو باستخدام الذكاء الاصطناعي. ولم يتوقف دينيس عند فلم سان فرانسيسكو، بل لمس بعصا الذكاء الاصطناعي السحرية الفيلم التاريخي الأخوة لوميير، وهو فلم فرنسي قصير أنتج في العام 1895، ويصور قطارًا مسرعًا نحو محطته لينزل الركاب. بالإضافة إلى أفلام أخرى، مثل فيلم رحلة عبر مدينة نيويورك في العام 1911، ويسعك كذلك مشاهدة رواد فضاء رحلة أبولو 16 وهم يقودون مركبة استكشافية على القمر في العام 1972. جميع هذه الأفلام أصبحت ذات وضوح لافت للنظر، ما يمنحنا نظرة ساحرة على الحياة في الماضي البعيد.
وعلى الرغم من ذلك، لا يمكننا تسمية ما فعله دينيس بإعادة ترميم للأفلام، لأن عمل الخورازميات لم يقتصر على التخلص من الشوائب، لكنها في واقع الأمر تضيف تقديرات قريبة من البيانات المفقودة، وذلك للتعويض عن النقص الموجود في تلك الأفلام القديمة التي اتسمت بتشويش كبير ومعدلات أطر منخفضة، إذ تختلق الأشياء وفقًا للمدخلات التدريبية. مثلًا، دربت خوارزمية دي أولدفي باستخدام أكثر من 14 مليون صورة لبناء فهم لكيفية تلوين الأشياء في العالم. بعدئذ تطبق الخوارزمية المعرفة التي اكتسبتها على الأفلام بالأبيض والأسود، فتلونها بألوان نابضة. وصرح دينيس «هذا شيء مهم، وندعوه تحسينًا، لأننا ندرب الشبكات العصبية، وعندما تعيد الأخيرة رسم صور الأفلام، فهي تضيف طبقة جديدة إلى البيانات.»
وأضاف لذلك نعتبر التلوين تحسينًا وزيادة الدقة تحسينًا واستقراء الأطر تحسينًا. «وجدير بالذكر أن دينيس يتخلص كذلك من الإزعاج البصري، ويقصد به تلك الومضات اللحظية والخطوط السوداء التي تظهر وتختفي بسرعة على الشاشة، وقد تمثل هذه العملية ترميمًا للأفلام، لكن مؤرشفي الأفلام لا يقبلون باعتبار أعمال الذكاء الاصطناعي لدينيس ترميمًا للأفلام، لأنها تدخل إلى الأفلام كثيرًا من البيانات الإضافية، وكثيرًا من بيانات خورازميات تعلم الآلة تعتبر تخمينًا، وهو ليس مقبولًا من زاوية تاريخية. وعلق دينيس على ذلك قائلًا «لا نرغب في الدخول في جدال مع مؤرشفي الأفلام، ونقدر أعمالهم على الرغم من كل شيء.»
والآن، دعونا نتناول تلك التحسينات واحدًا تلو الآخر، تخضع خوارزمية التلوين دي أولدفاي لتدريب شبكة عصبية، فتتعلم كيفية تمييز أجسام محددة، كالأشجار والعشب والأشخاص وملابسهم، وتتعلم أي الألوان تلائم أي الأجسام، لذلك عندما تشاهد تلك الأجسام في الأفلام التاريخية بالأبيض والأسود، فإنها تخمن الألوان الحقيقية لها. والخوارزمية ليست مثالية فهي لا تستطيع سوى تبين لون الأجسام التي رأتها مسبقًا في تدريبها. وقال دينيس «تصادفنا أحيانًا مشكلات كبيرة مع الأعلام، لأن الخوارزمية لم تدرب عليها.»
الخوارزمية التالية هي خوارزمية رفع دقة الفيلم، تتعلم هذه الخوارزمية من شبكة عصبية مدربة على أزواج من الصور، إحداها بجودة عالية والأخرى بجودة منخفضة، ووفقًا لدينيس، تحاول الشبكة العصبية جعل الصورة ذات الجودة المنخفضة تبدو تمامًا كالصورة ذات الجودة العالية والحجم الكبير. وبعد أن تتعلم الخوارزمية الأنماط التي تتيح تحويل جزء محدد من صورة منخفضة الدقة إلى نسخة أكثر وضوحًا، تنظر إلى فلم تاريخي منخفض الدقة، وتتمكن من تحسينه إلى دقة عالية بتحليل بكسلاته. فمثلًا، قال دينيس «تلاحظ الخوارزمية بكسلًا ساطعًا في إحدى الأماكن وبكسلًا داكنًا في مكان آخر، ما يمكنها من إعادة رسم النمط ذاته بأربعة أضعاف الحجم الأصلي.»
أما خورارزمية استقراء الأطر، فتدرب على قاعدة بيانات من الفيديو وتتعلم العلاقة بين الإطار والذي يليه، ومنها تجمع الأنماط التي تغير فيها الأجسام كالأشخاص والسيارات موقعها من إطار إلى آخر. وصرح مينج-سوان يانج، وهو عالم حاسوب في جامعة كاليفورنيا في ميرسيد »نرغب بتغذية النموذج ليشاهد أكثر عدد ممكن من العينات، لذلك عندما تشاهد شيئًا مثل هذا، عندئذ بإمكانك استخدام معلومة مشابهة، وذلك أشبه بالذاكرة الصورية. «وجدير بالذكر أن مينج طور خوارزمية »ديين« التي استخدمها دينيس لاستقراء الأطر.
فحص أرشيف بريلنجر في سان فرانسيسكو معدل أطر فيلم ترب داون ماركت ستريت، وقدر بأنه 16 إطارًا في الثانية. وعندما تشاهد خوارزمية ديين فلمًا تاريخيًا مثل ذلك الفيلم، ينظر النظام إلى إطار ويخمن ما سيبدو عليه الإطار التالي، وبذلك تولد أطرًا جديدة لإدخالها بين الإطارات الأصلية، وتقدر مواقع الأجسام بين تلك الإطارات المتداخلة. وتكرر الخوارزمية هذه العملية إلى أن تحصل على 60 إطار في الثانية، وبذلك عندما تشاهد الفيلم، سيبدو الجميع وهم يتحركون بسلاسة أكثر.
فضلًا عن ذلك، يمتاز نظام دينيس بقدرته على استقراء وجوه واضحة من مجرد نقط غير واضحة عديمة الشكل. إذ تشاهد في الفيديو أدناه فيلمًا لطوكيو في بدايات القرن العشرين، وكانت جودة الفيديو سيئة، وكانت الوجوه مشوشة إلى درجة يصعب تمييزها. وفي هذا المثال، دربت شبكة عصبية على قاعدة بيانات من الوجوه، ما مكنها من تخمين كيفية عرض الوجوه المشوشة، وذلك وفقًا لاطلاعها على كيفية ترتيب البكسلات على الوجوه عادة. وصرح دينيس «لكننا لا نستطيع الجزم بدقة تلك الوجوه والادعاء أنها تبدو كما كانت حقًا قبل 100 عام.»
إلا أن العملية ليست بهذه البساطة، لأنه خلال التلوين ورفع الدقة، تملأ الخوارزميات تفاصيل وجه شخص بإضافة بيانات إلى الفيلم، وذلك أشبه بتخيل الماضي، لكن وفقًا لريك بريلنجر مؤسس أرشيف بريلنجر، فإن مثل هذه التغييرات على السجلات التاريخية تؤرق بعض المؤرشفين، ويفضل المتمسكون بالحقائق حفظ الأفلام القديمة كالقطع الأثرية مهما كانت جودتها، عوضًا عن تعريضها إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي.
يجمع أرشيف بريلنجر مختلف الأفلام البسيطة والأفلام سريعة الزوال كالإعلانات القديمة والأفلام التعليمية، ولا يعارض ريك بريلنجر استخدام التقنيات على الأفلام الكلاسيكية، إذ قال »إن أدخل أحدهم تعديلات على لوحة الصرخة لإدفارت مونك، أو إن أضاف الفنان مارسيل دوشامب شاربًا إلى لوحة الموناليزا، فذلك ليس إلا زخرفة أو لحنًا آخر أو تعليقًا على عمل فني، ويجب أن نحظى بمثل هذه الحرية. «
وأضاف ريك »لكن عندما نشاهد ما أدخله دينيس إلى فيلم الأخوة لوميير، لا أفهم حقيقة لماذا أضاف الكثير، علمًا بأن تلك الإضافات من وحي الخيال، ومن شأنها إضفاء الغرابة إلى عمل تاريخي، فلا نعود قادرين على التفريق بين الحقيقة والزيف. وقد نقدم بذلك للمشاهدين انطباعًا خاطئًا مفاده أن جميع الأفلام التاريخية تبدو واضحة ونابضة بالحياة، لكن الحقيقة أن جميع صناع الأفلام في أوائل القرن العشرين استخدموا معدات بدائية، بالإضافة إلى أن الزمن لم يكن رحيمًا بالفيلم ذاته، فأصابه البلى على مدار 100 عام. جميع هذه العوامل جزء من التاريخ، إذ أن جودة الفيلم تشير إلى كيفية تصويره، ويرى المتمسكون بالحقائق أن الأجدر بنا حفظ ذلك التاريخ عوضًا عن تحسينه ببيانات جديدة.
وإن أردنا تناول هذا الخلاف من زاوية فلسفية، فإن تحسينات دينيس تفترض جوانب محددة بقيت مجهولة حتى بعد قرن على تصوير الفيلم، فلا يمكن أن نعلم مثلًا إن استطاع الذكاء الاصطناعي استنتاج اللون الصحيح لتلك القبعات الفكتورية. ومع أن المخرجات جميلة، لكنها غير مثالية. ما يطرح سؤالًا مهمًا: أليس الفيلم المصور بالأبيض والأسود مليئًا بالشوائب كذلك؟ إذ أن العالم آنذاك كان ملونًا وليس أبيضًا وأسودًا فقط، وحينئذ سار الناس بسياراتهم بسلاسة وليس بصورة كلاسيكية متقطعة كما نشاهدها في الأفلام القديمة. إذن أي الفيلمين يجسد المشهد الحقيقي آنذاك؟
علاوة على ذلك، تمثل تحسينات الذكاء الاصطناعي استمرارًا لتقليد بدأ منذ أيام الأفلام الصامتة. آنذاك كانت تجارب المشاهد فريدة، إذ وكلت كل دار أفلام أشخاصًا مختلفين لعزف موسيقى الفيلم، وكثيرًا ما كان أداء الموسيقيين مرتجلًا. وبقيت تلك الحال إلى أن بدأت صناعة الأفلام برسم معايير موحدة للموسيقيين، وذلك بدءًا من العام 1908.
إن أضافت الموسيقى حسًا دراميًا إلى الفيلم وساعدت في تخفيف ضجيج آلات العرض، ألا يعد ذلك أيضًا تحسينًا؟ ونعلم أن كل فرقة موسيقية أضافت لمستها الخاصة إلى ذلك الفيلم، وما فعله دينيس ليس بعيدًا عن ذلك، إذ أعاد دمج الأفلام القديمة وفقًا للمسته الخاصة ورؤيته لما كانت الحياة آنذاك. وقال دينيس «يرى كثيرًا من الناس في تلك التعديلات شيئًا أشبه بتجربة السفر عبر الزمن.»
فضلًا عن ذلك، يتلاعب صناع الأفلام بالمشاهد طوال الوقت ليولدوا إحساسًا بحقبة مختلفة، فيجعلون مقاطع الفيديو تبدو أشبه بالحياة آنذاك، لذلك قال ريك «ما من سبب يمنع وجود الأفلام التاريخية بصفتها النقية ونظيرتها المعدلة معًا، وأرى في ذلك عملية إعادة إنتاج مثيرة للإعجاب، وليس لدي اعتراض على استخدامها لغايات الترفيه، لأنها توعي الناس بأن الحياة آنذاك كانت حقًا كذلك.»
The post الذكاء الاصطناعي ينقل الأفلام الكلاسيكية إلى القرن الواحد والعشرين appeared first on مرصد المستقبل.