عندما بدأ الدكتور بروس هولمز عمله في وكالة ناسا في سبعينيات القرن الماضي، كانت لديه رؤية واضحة لمستقبل النقل الجوي في العام 2030.
ففي أيام عمله الأولى في الوكالة، وبينما كان مجتمعًا مع زملائه من المهندسين الجدد، سألهم أحد المديرين عما يطمحون إلى إنجازه مستقبلًا، فكانت معظم إجاباتهم مرتبطة بغزو الفضاء وتطوير المركبات السريعة التي تفوق بسرعتها الصوت، لكن هولمز أجاب بأنه سيعمل على تطوير «الأداء والسلامة لطائرات النقل العام الجوي.»
لوهلة بدا المدير الذي طرح السؤال محتارًا، فما الذي دفع مهندسًا جديدًا في وكالة فضاء إلى الاهتمام بموضوع بسيط كهذا؟ لكن هولمز تابع قائلًا «كوننا نعمل في مجال الفضاء علينا أن نفكر في كيفية توظيف تقنيات السفر ضمن الأبعاد الثلاثة -في إشارة إلى السفر بمركبات الفضاء- في تطوير طائرات النقل الجوي.» عندها أثنى المدير على إجابته وقال «إنها فكرة جيدة.»
وسعى هولمز منذ تقاعده في العام 2007، إلى نقل أفكاره وأحلام شبابه إلى مجموعة من الشركات الناشئة المتخصصة في تطوير خدمات «الطيران الخاص عند الطلب» وهي فكرة تشبه من حيث المبدأ نموذج شركة أوبر لخدمات النقل البري الخاص ولكنها تعمل جوًا.
ومن أهم الشركات التي تتبنى هذه الفكرة على اختلاف أشكالها، شركة سكاي في ولاية ماساتشوستس الأمريكية، وهي شركة ناشئة تطور طائرة أجرة تعمل بالوقود الهيدروجيني، ويشغل هولمز فيها منصب مدير قسم التقنية، وشركة ويسك في ولاية كاليفورنيا، ويدعمها لاري بيج المؤسس المشارك لشركة جوجل، بالإضافة إلى خدمة «التاكسي الجوي» الخاصة بأوبر، والتي تعتزم الشركة إطلاقها في مدينتين أمريكيتين إضافةً إلى مدينة ملبورن الأسترالية في العام 2023.
وقد تلعب طائرات الأجرة الكهربائية، والتي تتبناها شركات متعددة كشركة فولوكوبتر الألمانية التي تأسست في العام 2011، دورًا في حل مشكلة النقل الجوي الخاص ضمن المدن.
وافتتحت الشركة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 مطارًا مصغرًا لطائرات الأجرة في سنغافورة، وشغلته لفترة وجيزة بهدف دراسة جدوى «الطيران الخاص عند الطلب» في جنوب شرق آسيا.
ومن المتوقع أن تطلق مدينة دبي خدمة طائرات الأجرة (أو التاكسي الجوي) في العام 2022، وتجري الاستعدادات في المدينة بالتعاون مع شركتي فولوكوبتر الألمانية، وإي هانج الصينية المتخصصة بطائرات القيادة الذاتية صديقة البيئة.
وتعاونت شركة لينز النمساوية هي الأخرى مع شركة إي هانج لتوفير تنقلات جوية قصيرة المدى ضمن المدن، في حين عقدت شركة ويسك صفقةً في فبراير/شباط للبدء بتجارب عملية في نيوزيلندا تتضمن نقل ركاب على متن رحلاتها، وبحسب التقارير الواردة فقد عملت الشركة على تطوير تطبيق للهواتف الذكية (مشابه للتطبيقات المستخدمة في خدمات سيارات الأجرة التشاركية) ليتم إطلاقه مع الخدمة في العام 2018.
وشمالًا، تسعى النرويج أيضًا إلى تغيير كامل أسطولها المخصص للرحلات قصيرة المدى واستبداله بمركبات وطائرات كهربائية بحلول العام 2040.
وحينها قد يصبح التنقل الجوي داخل المدن وبين المنازل والمطارات أمراً مألوفًا، ما قد يحل مشكلة الاختناقات المرورية المتزايدة في مراكز المدن والطرق المؤدية إلى محطات وسائل النقل العامة الأكثر ازدحامًا.
ومن خلال التطبيق سيتمكن المسافرون القادمون عبر خطوط الطيران من حجز طائراتهم الخاصة الصغيرة التي ستقلهم من المطار في رحلة جوية قصيرة، توفر عناء الانتقال برًا.
المتطلبات الاقتصادية لخدمة «الطيران الخاص عند الطلب»
لعب المسافرون وبعض الشركات الناشئة دورًا في تطور فكرة «رحلات الطيران القصيرة عند الطلب» في فترةٍ سبقت ظهور الوباء، ولعل الدافع وراء ذلك تزايد أعداد الناس الذين يفضلون الابتعاد عن ازدحام المدن، تاركين ما فيها من مرافق (ومنها المطارات) ومتجهين نحو الضواحي، وهو ما شرحه هولمز بقوله «بات الناس يرغبون بالعيش في أطراف المدن، لكنهم أيضًا يرغبون بالذهاب إلى مراكزها كلما أرادوا ذلك، دون الحاجة إلى السفر مدة 90 دقيقة أو أكثر كل يوم.»
وقال جو ليدر، الرئيس التنفيذي لـشركة أبيكس، وهي منظمة عالمية غير ربحية تُعنى بدراسة تجربة المسافرين عبر خطوط الطيران «سنشهد تحولًا في خدمات السفر الجوي مستقبلًا لتصبح شبيهةً بنموذج شركة أوبر، ولا أعني أن التحول سيكون شاملًا لنظام السفر الجوي الحالي كما نعرفه، ولكن تلك النماذج الشبيه بأوبر ستهتم بنقل المسافرين «الميل الأخير» من رحلتهم، بين المطار والمكان الذي يريدون.»
ويتشابه ذلك مع ما تقدمه بعض شركات الطيران لمسافريها، كطيران الإمارات الذي يقدّم لركابه سيارات ليموزين تقلهم إلى مقصدهم.
وعلى الرغم من أن جائحة كوفيد-19 أجبرت الدول على تقييد حركة السفر الخارجي ودفعت الناس إلى عدم التجمع في الأماكن العامة المغلقة لفترات طويلة، ما سبب خسارات كبيرة لشركات الطيران، فإن خبراءً يرون أن الوباء قد يسرّع وتيرة الابتكار في قطاع الطيران.
وأعلن الاتحاد الدولي للنقل الجوي في أغسطس/آب عن انخفاض سنوي بنسبة 63% في حركة الطيران العالمي، مؤكدًا أن الذروة التي وصلت إليها العام الماضي لن تتكرر قبل العام 2024، في حين تنفق الحكومات أموالًا طائلة لإنقاذ شركات الطيران المحلية الكبرى، كشركة دلتا الأمريكية وشركة أليتاليا الإيطالية، أما الشركات التي لا تنتمي بوضوح إلى إحدى الدول كشركة «إير إيجا» فقد لا تحصل على مساعدات مالية، وفق ما قاله ريتشارد أبولافيا، نائب رئيس قسم التحليل في شركة تيل جروب لدراسات الطيران.
ومع هذا، فقد أظهر قطاع السفر بمختلف أشكاله تعافيًا تدريجيًا بمعدلات متباينة، وعلى الرغم من أن حركة الطيران العالمي هي الأبطأ تعافيًا، بنسبة انخفاض ما تزال عند حدود 80% (وفقًا لما قاله أبولافيا)، فإن رحلات الطيران على متن الطائرات الخاصة المملوكة من قِبل شركات أو أفراد، والتي اقترب أدنى مستوى لانخفاضها من عتبة الـ 70%، قد انتعشت مؤخرًا ولا يتجاوز الآن معدل إنخفاضها 25% عن العام الماضي.
وتابع أبولافيا قوله «ينعم أصحاب الطائرات الخاصة براحة البال، فهم بعيدون عن ازدحام المطارات، وبإمكانهم تعقيم طائراتهم والتأكد من خلوها التام من الأمراض.»
لكن المشكلة تكمن في أن السفر على متن الطائرات الخاصة -والتي يبلغ عددها عالميًا نحو 20 ألفًا- ليس في متناول غالبية المسافرين.
وفي الوقت ذاته، استؤنفت رحلات الطيران القصيرة بتواتر أعلى من الرحلات الدولية، فمع انتشار الوباء بات الناس لا يفضلون الابتعاد كثيرًا عن منازلهم، سواء بدافع الحد من انتشار الفيروس أو لأن البلدان الأخرى لم تعد تسمح لهم بزيارتها.
ومن الجدير بالذكر، أن أهم سمات السفر على متن الطائرات الخاصة، كالخصوصية وقرب المسافة، هي ذاتها السمات التي يتميز بها نظام الطيران الجديد كما تراه ويسك وأوبر وسكاي وغيرها من الشركات المختصة في هذا المجال.
ويتعين على الأماكن المرشحة لاستضافة خدمة طائرات الأجرة الخاصة، خلال السنوات المقبلة، أن تتسم بصفتين، الأولى عدم توفر بدائل أفضل (كقطار الأنفاق السريع في هونج كونج مثلًا)، والثانية تواجد نسبة جيدة من السكان ذوي الدخل الفائض.
وشرح أبولافيا ذلك بقوله «قد تحل القطارات مشكلة بُعد المسافات في أوروبا، غير أن تضاريس أمريكا اللاتينية وتفاوت ثراء سكانها يجعلانها موقعًا مثاليًا لتطبيق نظام طيران شبيه بنموذج أوبر، فمدينة ساو باولو البرازيلية تعد السوق الأكثر طلبًا للمروحيات الخاصة، وذلك لرغبة سكانها الأثرياء بالتميز وميلهم إلى عزل أنفسهم عن بقية أفراد المجتمع.»
وتعدّ سنغافورة أيضًا موقعًا ممتازًا لتبنّي الفكرة، بسبب جغرافيتها الخاصة كونها أرخبيلًا، ولتواجد نسبة مرتفعة من السكان الأثرياء، وتتشابه في ذلك مع مدينة دبي، التي يبذل فيها قطاع الطيران جهودًا حثيثة لجذب الشباب وتوظيفهم، فيقل بذلك الاعتماد على الطيارين الوافدين من الخارج، الذين يحتمل أن يغادروا دولة الإمارات في نهاية المطاف، وفقًا لما قاله ريتشارد براون، مدير شركة نافيو للاستشارات.
ولا يعني مصطلح «ذوي الدخل الفائض» المشار إليه سابقًا، أصحاب الملايين ممن يسافرون بطائراتهم الخاصة، بل يشير إلى أولائك الذين اعتادوا السفر على متن رحلات الدرجة الأولى.
ومع أن شركات أمريكية مثل وول مارت وكوكا كولا اعتادت أن تنقل موظفيها على متن طائراتها الخاصة، فذلك ليس شائعًا في أوروبا، فمؤسس شركة آيكيا مثلًا كان يسافر على متن رحلات الدرجة الاقتصادية.
وقال براون «إن أمكننا خفض التكلفة نسبيًا، فسيفتح ذلك المجال لانتشار الفكرة في مناطق واسعة كأوروبا، التي ما يزال سكانها يعتقدون أن استخدام مثل هذه الرفاهيات محصور بالمشاهير.»
وأضاف «قد تكون المجتمعات التي يعدّ فيها استعراض مظاهر الفخامة والثروة أمرًا مقبولًا» أسرع من غيرها في تبنّي الابتكارات الجديدة في مجال السفر الجوي الخاص.
طاقة الهيدروجين نظيفة واقتصادية
ولخفض تكلفة رحلات «الطيران الخاص عند الطلب» لابد أن تكون الطائرات المستخدمة موفرة للطاقة، وألا تطير خاليةً من الركاب، ما أمكن.
قال أبولافيا موضحًا «لطالما كان التحليق بلا ركاب مشكلة نظام الطيران بنموذج أوبر» وذلك عندما تحلق الطائرات خاليةً من ركابها باتجاه مكان تواجد الراكب التالي الذي ستقله.
ويمكن تفادي ذلك باستخدام الخوارزمية المناسبة، كالتي استخدمها هولمز في «داي جيت» وهي شركة كانت تقدّم خدمات «الطيران الخاص عند الطلب» شغل فيها هولمز منصب رئيس قسم التخطيط قبل أن تتوقف عن العمل في العام 2008.
وقال هولمز «طبقنا نظام محاكاة مرتبط بالعميل، وهو نظام محوسب يُستعمل بكثرة في مجالات علوم الأحياء ونمذجة النُظم الاجتماعية.» وفيه يبني الحاسوب نماذج افتراضية لشرائح مختلفة من الناس، يصنّفها تبعًا للعمر والدخل المادي، ثم يجري عملياته الحسابية، ويفيد هذا النظام مثلًا في حساب احتمالية انضمام ركاب إضافيين إلى رحلة سجل فيها مسبقًا شخص ما منذ 30 يومًا.
الأمر الذي مكّن شركة داي جيت في ذلك الوقت من حساب ثمن تذاكر الركاب للرحلات التي لم تُحجز مقاعدها بالكامل، فقد ساعدهم النظام على تخمين احتمالية قدوم ركاب آخرين ومساهمتهم في تحمل تكلفة رحلة الطيران ذات المقاعد الستة، ما يشبه خدمة «أوبربول» من حيث أسلوبها في التسعير.
ووصف هولمز نظام المحاكاة ذاك بقوله «كان ذلك ناجحًا.»
وللطائرة التي استخدمتها الشركة في ذلك الحين الدور الرئيس في أزمتها، فقد كانت من طراز إكليبس 500، وهي طائرة صغيرة نفاثة مصممة للطيران على ارتفاع 41 ألف قدم ، ولأن رحلات داي جيت حينها كانت لمسافات متوسطها 250 ميلًا، فقد تعين على الطائرات أن تحلق على ارتفاعات منخفضة نسبيًا، ما زاد في استهلاك الوقود وتكاليف الرحلات، فضلًا عن تلويث البيئة.
قال هولمز «كنا بحاجة إلى طائرة يمكنها التحليق بكفاءة على ارتفاع 10 إلى 15 ألف قدم» والطائرة الوحيدة المتوفرة في ذلك الوقت وبتلك المواصفات كانت من طراز سيروس إس آر 22، وهي طائرة صغيرة مزودة بمروحة دفع أمامية، غير أن مؤسس الشركة اعتقد أنها لن تعجب الركاب.
وأضاف «حين أتذكر ما مضى، أرى أن طائرة سيروس كانت بديلًا ممتازًا وإضافةً مهمةً لأسطول الشركة، وهو درس تعلمته جيدًا.»
وتتميز المركبات التي تعمل بالوقود الهيدروجيني -والتي ما تزالت قيد التطوير- بأنها لا تصدر أي إنبعاثات مضرة بالصحة علاوةً على تكاليف صيانتها المنخفضة.
فبالإضافة إلى شركة سكاي، تسعى شركات طموحة أخرى مثل زيروآفيا إلى تطوير طائرات تعمل بالوقود الهيدروجيني، في حين تخطط الحكومة الفرنسية من خلال حزمة المساعدات المقدمة مؤخرًا لقطاع الطيران، والهادفة لإبقاء عمال الخطوط الجوية على رأس عملهم، إلى تمويل مشاريع تهدف إلى تطوير طائرات تعمل بالوقود الهيدروجيني بحلول العام 2035.
وأشار هولمز إلى ذلك بقوله «تتقدم بعض بلدان الشرق الأوسط كمدينة دبي على غيرها في مجال تطوير اقتصاد معتمد على الوقود الهيدروجيني، فهم لا يرون مستقبلًا للنفط ومشتقاته» وهو الوقود الذي مازالت اقتصاداتهم معتمدةً عليه.
ويمثل تطوير مثل هذه الطائرات خبرًا سارًا للشركات الساعية إلى جعل الرحلات الجوية الخاصة قصيرة المدى في متناول شريحة أكبر من الناس، وهو ما ينسجم مع التوقعات التي أعلنتها شركة فروست آند سوليفان للأبحاث، بأن سوق طائرات الأجرة سينمو «سريعًا» بين عامي 2022 و 2040.
وبالفعل، فقد بلغت أرباح شركة فولوكوبتر 94 مليون دولارًا في سبتمبر/أيلول 2019، وتقدّر شركة رولاند برجر للاستشارات أن عدد طائرات الركاب «المسيرة عن بعد» في مختلف مدن العالم، سيتجاوز 160 ألفًا بحلول العام 2050.
ويرى جيف برايس، الخبير في أمن الطيران، أن حركة الخطوط الجوية قد لا تعود أبدًا إلى «سابق عهدها قبل الجائحة.»
فبعد أن اعتادت الشركات الاستغناء عن حضور الاجتماعات شخصيًا واستبدلت ذلك باجتماعات الفيديو عبر شبكة الإنترنت، فقد تنخفض حاجتها للسفر بصورة دائمة.
وأضاف برايس «قلنا الكلام ذاته بعد أحداث 11 سبتمبر، لكن تقنيات التواصل حينها لم تكن متوفرة» فتقنية محادثات الفيديو اليوم تلغي الحاجة لحضور الاجتماعات شخصيًا في أغلب الأحيان.
وبات التطوير في صناعة الطيران موجهًا نحو حلول مستقبلية مبتكرة، أكثر جذبًا للمسافرين.
ولعل ذلك بالنسبة لهولمز، يعني الاقتراب أكثر من تحقيق حلمه في جعل «البعد الثالث للسفر» متاحًا ليس للنخبة فحسب، بل لأغلب الناس في نهاية المطاف.
وختم هولمز بقوله «علينا ألا نتوقف عن التطوير والابتكار ونحن نشق طريقنا بعيدًا عن ازدحام الأرض نحو رحابة السماء، وخلال تلك الرحلة علينا أن نتعلم كيف نوظف البعد الثالث في إيجاد الحلول لمشكلاتنا.»
The post طائرة أجرة مبتكرة تنقل المسافرين من المطار إلى منازلهم appeared first on مرصد المستقبل.