يدفع النمو الاقتصادي عجلة الزيادة السكانية؛ فالأمم المتحدة تتوقع أنه بحلول العام 2030 سيرتفع عدد سكان العالم إلى 8 مليارات، ويتابع صعوده إلى 9.8 مليارات بحلول العام 2050، ثم تتناقص معدلات الزيادة السكانية إلى أن يَثبت عدد سكان العالم بحلول العام 2100.
ويقترن ذلك بتزايد عدد ساكني المدن ومعدلات استهلاكهم، فيزداد الضغط على مواردنا العالمية المتاحة. ولمواجهة تحديات الاستدامة والتغير المناخي، لا بد لمختلف البلدان من البحث عن أفضل أساليب إدارة الزيادة السكانية في المراكز الحضرية، مع درْء أثرها السلبي على البيئة.
نموذج الزيادة السكانية في دولة الإمارات
ارتفع عدد سكان دولة الإمارات إلى ما يقرب من 10 ملايين نسمة، بعدما زاد خمسة ملايين نسمة بين العامين 2000 و2010، وما زال عدد السكان يرتفع لكن بمعدل أقل، ويُتوقع أن يبلغ ذروته في العام 2033 ليصل إلى 10.71 ملايين، ثم ينخفض ببطء ويَثبت عند نحو تسعة ملايين بنهاية القرن الحادي الثقافات، إلا أن قُربها من الدول النامية سريعة التزايد السكاني – مثل نيجيريا والهند اللتَان تتمتعان بأعلى معدلات الزيادة السكانية في العالم – يجعلها وجهة جذابة لسكان تلك الدول.
تنافُس المدن العالمية على الموارد
تُواجه المدنُ العولمةَ اليوم بزيادة التنافُس في جذب العمالة والاستثمارات الأجنبية؛ ولا يخفى أن ترسيخ قاعدة عمالية كبيرة متنامية أمر لا بد منه للنمو الاقتصادي، وينطبق هذا خصوصًا على بلدان الخليج العربي. ولا بد لها من السعي لتحقيق تلك الأهداف في إطار الاستدامة، والتركيز في الإنماء الاقتصادي من دون الإضرار بالبيئة.
نهج المدينة الذكية في دولة الإمارات
ظهرت فكرة «المدينة الذكية» في القرن الحادي والعشرين لتقدم حلولًا لكثير من تلك التحديات؛ فبتسخيرها التقنيات المتقدمة – مثل إنترنت الأشياء والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي – في إدارة المراكز الحضرية وشوارعها ومرورها وكهربائها وما شابهها، تستهلك موارد أقل، وتحد من النفايات، وترفع الكفاءة والفعالية؛ فتجعل المدن أنظف بيئيًّا وأصلح للحياة.
وكي تُحقق الإمارات هدفها المتمثل في أن تصبح من أكثر دول العالم تقدُّمًا واعتمادًا على العلم، يلزمها عمالة ماهرة لدفع عجلة نمُوها، وبنية تحتية تحفز الزيادة السكانية وتديرها. ولهذا تبنت القيادة الرشيدة في الدولة التوجه نحو تأسيس مدن ذكية في مراكزها الحضرية. فما الابتكارات التي بإمكان المدن الذكية في دولة الإمارات أن تعتمد عليها لجعل البلد قادرًا على اجتذاب مزيد من السكان للاستمرار في دفع عجلة النمو بمعدلات عالية؟
المباني الموفرة للطاقة
إنّ تقليل استهلاك الطاقة لَمِن ضروريات المدن الذكية، والمباني الموفرة للطاقة تتيح لتلك المدن الاعتماد على طاقة أقل وتقليل بصمة ثاني أكسيد الكربون التي يخلفها السكان.
وبينت الأبحاث أن حصة المباني السكنية في دول الخليج العربي تبلغ 51% من استهلاك الطاقة (أغلبها بواسطة المكيِّفات)، يتبعها القطاع الصناعي بنسبة 18%، ثم المباني التجارية بنسبة 14%.
وأما المدن الذكية فإنها تستطيع بمستشعراتها وأجهزتها المتصل بعضها ببعض أن تجمع البيانات اللازمة للوصول إلى أفضل سبيل لإدارة مبانيها ومنشآتها، من نواحي التبريد والتدفئة والإضاءة وغير ذلك من مصارف استهلاك الطاقة. بل إنها تستطيع خفض استعمال الكهرباء بنسبة 30-50% بتعديله وفق ساعات الذروة وساعات الركود.
ودولة الإمارات رائدة فعلًا في مجال المباني الخضراء، فكثير من مبانيها حاصلة على شهادة الليد (شهادة الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة)، وفي العام الماضي حصلت دبي على التصنيف البلاتيني العالمي في شهادات الليد الخاصة بالمدن؛ وقد وضعت معاييرها التنظيمية لقياس الكفاءة الطاقيّة (الاستدامة) للمباني، متعهِّدةً بالتطوير المستقبلي لمباني ذكية موفرة للطاقة، مؤكِّدة التزامها هذا التعهد بمشاريع مراعية للبيئة مثل مدينة مصدر.
إدارة المرور
لا يخفى أن النقل من مفاتيح حياة أي مدينة، فإدارته مِن ثَم ضرورية لجعل دولة الإمارات وجهة لمن يريد العيش بصحة وسعادة. وتستطيع المدن بالتقنيات المتقدمة – مثل الكاميرات والمستشعرات وتوظيف البيانات الضخمة – أن تجمع بيانات عن حركة المرور والظروف الجوية، فيتنسى للمسؤولين تقليل حركة المرور (بتعديل إشارات المرور مثلًا بناءً على الحركة المرورية الحالية) ورفع درجة الأمان وتقليل زمن الاستجابة للحوادث.
وفي دبي مثلًا، استثمرت هيئة الطرق والمواصلات 590 مليون درهم في نظامها المروري الذكي، المصمَّم لتحسين حركة المرور كثيرًا.
الإدارة الذكية للمياه
سيزداد استهلاك المياه كما الموارد الأخرى، بازدياد السكان، وهذا مشكلة في منطقة الخليج العربي، حيث تشكل قلة موارد المياه من أكبر التهديدات. لكن بوسع التقنيات ورقْمنة إدارة المياه أن تقلل الهدر.
فالمستشعرات مثلًا قادرة على كشف التسرُّبات والحيلولة دونها. وإضافة إلى هذا لا يُعاد استخدام نحو 82% من مياه الصرف الصحيّ، مع أنها مصدر مائي متزايد؛ ولهذا قررت دولة الإمارات وفق رؤيتها للعام 2021 أن تسعى إلى إعادة استعمال 100% من مياه الصرف الصحيّ بحلول العام 2020.
وباستعمال شبكة مياه ذكية وتقنيات متقدمة، يمكن خفض الإنفاق على إنتاج الماء وتحليته، وخفض استهلاك الطاقة اللازم لضخ المياه ومعالجتها. ويضاف إلى هذا أن استخدام الطاقة المتجددة في محطات تحلية المياه سيساعد على خفض تكلفة تحلية المياه البحرية والجوفية.
المَزارع الرأسية ومزارع الأسطح
في المواد الغذائية تعتمد دولة الإمارات على الاستيراد اعتمادًا كبيرًا (85% تقريبًا)، ولذا فالأمن الغذائي أيضًا محطّ اهتمام كبير فيها. ومع أن الزراعة تتطلب كميات وافرة من المياه فإن الزراعة الذكية تقدم الحل، لأنها توظف التقنيات المتقدمة لمراقبة كل شيء، من المستوى الأمثل للضوء والمياه والرطوبة، إلى جمع أقصى قدر ممكن من المحاصيل؛ وتقلل الحاجة إلى الأراضي الصالحة للزراعة.
وبدأ تطبيق ذلك فعلًا، فمن المقرر أن يصبح في دبي قريبًا أكبر مزرعة رأسية في العالم، وهي مزرعة تستهلك ماءً أقل بنسبة 99% مما تستهلك الحقول الخارجية، وتُنتج يوميًّا نحو 2722 كجم من الخضراوات الورقية. ويعني ذلك أن بوسع الزراعة الرأسية إذَن أن تكون نهجًا مستدامًا لإنتاج الغذاء في مدن المستقبل.
الزيادة السكانية ضرورة في دولة الإمارات
على رغم أن الزيادة السكانية تُعد مشكلة عائقة في كثير من الدول، إلا أنها ضرورية للنمو الاقتصادي في دولة الإمارات؛ مع الاستفادة من التقنيات المتقدمة لاستغلال الموارد المتوفرة في الدولة بكفاءة أكبر وبهدْر أقل. ولأن دولة الإمارات تحتاج على المدى الطويل إلى مواصلة اجتذاب المواهب وتطوير قواها العاملة المحلية فإن اعتمادها على المدن الذكية سيكون محوريًّا، خاصة أن هذا التوجه أثبت فعلًا أن زيادة السكان لا تحتم استنزاف الموارد.
The post كيف تحافظ دولة الإمارات على نموها الاقتصادي بدعم من تزايد السكان؟ appeared first on مرصد المستقبل.