على مر تاريخها، مرّت البشرية بالعديد من الفترات الصعبة التي جاءت لتفتك بعدد كبير من البشر وتتسبب في تغييرات كبيرة في نمط عيش الناجين. فبداية من الحروب الفارسية الإغريقية وحملات الإسكندر المقدوني والحروب البونيقية وطاعون أثينا وحقبة الممالك الثلاث بالصين، مرورا بالطاعون الأسود والحملات الصليبية والاحتلال العثماني للبلقان والأراضي العربية والحملات النابليونية وصولا للحقبة الاستعمارية والحروب العالمية والحرب الكورية وحرب فيتنام، عاش البشر على وقع سنوات صعبة تميّزت بسقوط أعداد هائلة من القتلى ودوّنت ضمن قائمة أسوأ السنوات التي عاش بها البشر.
ومن بين كل هذه الفترات التعيسة بتاريخ الإنسان، دوّن التاريخ عام 536 كأسوأ سنة عاش بها البشر حيث صنّف عدد من المؤرخين، من أمثال المؤرخ المختص في شؤون العصور الوسطى مايكل ماكورميك (Michael McCormick)، هذا العام بأسوأ عام قد يعيش به إنسان بسبب تراكم عدد كبير من الأزمات والكوارث به.
غياب الشمس
على حسب المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس القيسراني (Procopius of Caesarea)، عاشت مناطق أوروبا وشمال أفريقيا وأجزاء من آسيا خلال سنة 536 على وقع عام بلا شمس حيث حلت موجة من الضباب لتغطي السماء وتحجب الشمس عن العالم. وعلى حسب وصف بروكوبيوس القيسراني، بدت الشمس كالقمر فأضاءت بشكل خافت لفترة وجيزة يوميا، لم تكد تتعدى الثلاث ساعات، قبل أن يغرق العالم في الظلام الدامس وقد بدى المظهر مريعا حسب وصف المؤرخ البيزنطي حيث كان الأمر أشبه بكسوف للشمس استمر حوالي 18 شهرا.
إلى ذلك، حددت المصادر المعاصرة سبب هذا الضباب الكثيف، أو الغبار الكثيف حسب مصادر مؤرخي شمال إفريقيا خلال تلك الفترة، حيث أكدت أبحاث أجريت بالسنوات الفارطة عن حدوث ثوران بركاني هائل بآيسلاندا ما بين عامي 535 و536 أدى لقذف كميات كبيرة من الحمم واستقرار نسبة هامة من ثنائي أكسيد الكبريت بالجو.
مجاعات وضحايا بمختلف القارات
وبالصين، حدّثت مجلدات التاريخ نان شي (Nan Shi) عن العام 536 فأكدت على غياب الشمس بالعديد من المناطق وتساقط أجسام صفراء غريبة من السماء. كما سجّل الصينيون تراجعا في درجات الحرارة وتساقطا للثلوج خلال الفترة الصيفية أدى لإفساد المحاصيل وأسفر عن مجاعة قتلت عددا كبيرا من الصينيين فبمنطقة تشينغتشو (Qingzhou) توفي ما بين 70 و80 بالمئة من السكان جوعا.
ولم تقتصر المجاعة على الصين فقط. فقد عانت أوروبا ومناطق عدة بآسيا وإفريقيا من ندرة الموارد الغذائية وهو ما أجبر كثيرين على الهجرة، خاصة بالمناطق الإسكندنافية، بحثا عن الغذاء. فللنمو، احتاجت المحاصيل الغذائية، خاصة الحبوب، لكميات وافرة من أشعة الشمس. وبسبب غياب هذا العنصر وتراجع درجات الحرارة بما بين 2 و3 درجات بالعالم، لم يتمكن الفلاحون من زراعة الأراضي ليجبر بذلك كثير منهم على الرحيل.
وقد بلغت مآسي العام 536 جنوب القارة الأميركية. فخلال تلك الفترة، تحدّث المؤرخون عن معاناة شعب حضارة موتشي (Moche)، الواقعة بالشمال الشرقي للبيرو حاليا، من ويلات التقلبات المناخية. فعلى مدار سنين اعتمد هذا الشعب على الصيد البحري وأنشأوا نظام ريّ لسقي ما كانوا يزرعونه. وأثناء العام 536، واجهت حضارة موتشي مجاعة أدت لوفاة كثيرين حيث أفسدت التقلبات المناخية المحاصيل وجعلت عمليات الصيد صعبة بسبب الأمواج وانعدام الرؤية وقلّة الأسماك.
تقلبات سياسية ووباء و25 مليون ميت
وعلى الصعيد السياسي، شهد العام 536 العديد من التقلبات فقد فارق البابا أغابيتس الأول (Agapetus I) الحياة عن عمر يناهز 46 عاما بعد حبرية استمرت 10 أشهر فقط ليخلفه بذلك على رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا سيلفيريوس (Silverius).
من ناحية أخرى، حددت التقلبات المناخية للعام 536 مستقبل الإمبراطورية البيزنطية. فأثناء فترة حكم الإمبراطور جستنيان الأول (Justinian I)، تمكن البيزنطيون من تحقيق مكاسب عديدة عقب توسعهم على حساب روما القديمة وأفريقية بفضل تضحيات قادة عسكريين من أمثال بيليساريوس (Belisarius). لكن بداية من العام 536، عرفت الإمبراطورية البيزنطية نوعا من التراجع بدأ بسبب التقلبات المناخية وانتهى بظهور الوباء.
إلى ذلك، لم تتوقف معاناة البشر الذين عاشوا عام 536 عند هذا الحد. فبعد 4 سنوات فقط عن التقلبات المناخية، ظهر للعالم وباء طاعون جستنيان، نسبة للإمبراطور البيزنطي، الذي انتشر بشكل سريع ليسفر عن وفاة أكثر من 25 مليون شخص. وعلى حسب العديد من المصادر، لعب هذا الوباء دورا هاما في انهيار الإمبراطورية البيزنطية التي خسرت وحدها ثلث سكانها.